قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

البـدعــة حقيقتها، وضوابطها، وأقسامها - علي الحذيفي

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فإن حقيقة "البدعة" وصورها وأحكامها وآثارها تخفى على كثير من فضلاء المسلمين وخيارهم فضلاً عن عوامهم، من أجل ذلك كان تحرير مسائل "البدع" من أفضل أنواع العلم الذي يتقرب إلى الله بتعلمه وتعليمه لأنه مما ينفع المسلمين في أمر دينهم ودنياهم، فبيان أمر البدعة وكشف حقيقتها من أعظم الأسباب الموصلة إلى تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره، واجتماع المسلمين على كلمة سواء، والعودة الصادقة بالمسلمين إلى دينهم.

        وكل خير في اتباع من سلف              وكل شر في ابتداع من خلف.

لذا أحببت أن أكتب مقدمة "مختصرة" في بيان كمال الشريعة، وخطورة الابتداع، مع أشياء أخرى تتعلق بها، وأسأل الله أن ينفع بها القارئ والكاتب.

وهذه الرسالة المختصرة تتكون من "تمهيد" وعدة فصول:

الفصل الأول: كمال الشريعة.

الفصل الثاني: ذم البدع والمحدثات.

الفصل الثالث: حقيقة البدعة.

الفصل الرابع: التمسك بالسنة.

الفصل الخامس: سبب الوقوع في البدع.

الفصل السادس: معرفة البدع وتمييزها.

الفصل السابع: قواعد معرفة البدع، وفيها عدة قواعد.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه أبو عمار علي الحذيفي

27/من ذي الحجة 1428هـ

 

 

تمهيد

أهمية معرفة هذا الفن

قال شيخ الإسلام في "الاستقامة":

(لكنَّ أعظم المهم في هذا الباب وغيره تمييز السنة من البدعة، إذ السنَّة ما أمَر به الشارع، والبدعة ما لم يشرعه من الدين. فإن هذا الباب كثر فيه اضطرابُ الناس في الأصول والفروع، حيث يزعم كل فريق أنَّ طريقه هو السنة، وطريقَ مخالفه هو البدعة، ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع، فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله) أ.هـ

 

الفصل الأول كمال الشـريعة

المبحث الأول  أدلة كمال الشريعة

اعلم رعاك الله أن الله قد أكمل دينه فلا يحتاج إلى مزيد، وأتم شريعته فلا تحتاج إلى جديد.

1- قال سبحانه ممتناً على عباده: (اليوم أَكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).

قال ابن كثير في "تفسيره":

(هذه أكبر نعم الله عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم) أ.هـ

2- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم..) رواه مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرو.

3- وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً، فقال: ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار، إلا وقد بين لكم).

رواه ابن حبان في "صحيحه" وسنده صحيح.

4- وجاء عن ابن مسعود أنه قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة). رواه الدارمي في مقدمة "السنن" وأبو خيثمة "العلم"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" وسنده صحيح.

5- قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة، لأن الله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم" فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً).

2- بيان معنى الكمال

وكمال الشريعة لا يعني أن الشريعة نصت على بيان حكم كل جزء من الجزئيات، وإنما نعني بكمال الشريعة ما يلي:

الأول أن للشريعة قواعد كلية تدخل فيها كثير من الفروع والجزئيات والمسائل المستجدة النازلة، وهذه "القواعد الكلية"، والأحكام المجملة قد قررتها الشريعة وبينتها، وهذا دليل على كمالها وشمولها وعمومها. فقوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)، فالطيبات هي كل شيء نافع لابن آدم في بدنه وعقله، والخبائث هي كل ضار على ابن آدم في بدنه وعقله، ويدخل في ذلك ما لا يحصى من الأطعمة والأشربة وغيرها مما يستعمله الناس، ولا يشترط أن ينص الشارع على هذا المأكول بعينه.

الثاني أن للشريعة عمومات تدخل فيها ما لا يحصى كقوله تعالى: (كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) فيدخل في ذلك الخضروات والفواكه واللحوم والأسماك وغيرها من الأشياء.

والثالث: أن الشريعة نصت على أصول كثيرة تلحق بها فروع كثيرة لا تحصى، مثل ما لو حرم الشارع شيئا بعينه فإنه يحرمه لعلة، فإن كان قد أظهرت الشريعة هذه العلة وبينتها فإنه يلحق بها ويأخذ حكمها كل شيء يشابهه في الحكم.

الفصل الثاني

ذم البدعة والتحذير منها

حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدع والمحدثات في الدين، وحذرنا منها السلف الصالح.

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) رواه مسلم.

2- وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان.

3- وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أخشى عليكم بعدي بطونكم وفروجكم ومضلات الأهواء). رواه أحمد عن أبي برزة الأسلمي، وهو  صحيح صححه الألباني في "ظلال الجنة" (1/12).

-  وقال ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) وقد تقدم.

- وقال ابن عباس: (عليكم بالاستقامة والأثر، وإياكم والتبدع). رواه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها".

- وقال حذيفة: (يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يمينا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً). رواه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها".

- وقال الحسن البصري: (إياكم وما أحدث الناس في دينهم، فإن شر الأمور المحدثات).

رواه أحمد في "الزهد".

- وقال أبو العالية: (تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام ولا تحرفوا الإسلام يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة، نبيكم، والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي بين الناس العداوة والبغضاء). رواه اللالكائي في "أصول اعتقاد أهل السنة".

- وقال أيوب بن أبي تميمة السختياني: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً). رواه أبو نعيم في "الحلية".

- وقال حسان بن عطية: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ولا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة). رواه أبو نعيم في "الحلية".

- وقال سفيان: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها).

- وقال أحمد في "أصول السنة": (من أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة).

 

الفصل الثالث حقيقة البدعة

البدعة في اللغة: هو ما أحدث على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: (بديع السموات والأرض) أي: خالق السموات والأرض وليس لهما مثيل من قبل، وقوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل) أي: لست أول رسول، بل أنتم تعرفون الرسالات.

والبدعة شرعاً: هي ما أحدث في الدين، وليس له أصل يدل عليه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (4/67): (البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب).

وقال الشاطبي في "الاعتصام" (ص27): (عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله) أ.هـ

ومن هذا التعريف نستطيع أن نقول: إن البدعة المذمومة هي التي توافرت فيها ثلاثة شروط:

الأول: أن يكون هذا الشيء محدثا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان قولا أو عملا أو اعتقادا، ودليله ما ورد من النصوص من ذم المحدثات كقوله صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة). ونحوه، فخرج بذلك الأمور الشرعية التي نص على مشروعيتها الشارع أو أقرها، فإنها ليس من المحدثات.

الثاني: أن يضاف هذا الشيء إلى الدين، ودليله ما ورد من النصوص من تقييد الحدث بما إذا كان في الدين كقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا) والمراد بأمره ها هنا: دينه وشرعه، فخرج بهذا القيد ما كان من أمور الدنيا من الاختراعات الحادثة في وسائل النقل والاتصالات وغير ذلك.

الثالث: أن لا يستند هذا العمل إلى أصل شرعي، ودليله ما ورد من النصوص من تقييد الحدث بكونه ليس من الدين، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ليس منه) وقوله: (ليس عليه أمرنا) ونحوهما.

وقد فهم بعضهم هذا القيد خطأ وستأتي مناقشته إن شاء الله.

 

الفصل الرابع التمسك بالسنة

المبحث الأول تمسك المسلم بالسنة

قال الله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليْك إنك على صراط مستقيم)، وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتّقون)، وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا)، وقال تعالى: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) وقال الله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال: (ومنن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيراً).

- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) رواه الشيخان عن أنس، وانفرد به مسلم عن أبي هريرة.

- قال رسول الله صلى عليه وسلم: (عليكم بسنتي). رواه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية.

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله). رواه مالك بلاغا والحاكم موصولا وسنده حسن. "الصحيحة" (4/260).

- وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك). رواه ابن ماجه في مقدمة "سننه" عن العرباض بن سارية.

- وقال ابن مسعود: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة).

- وقال: (إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما إن تمسكنا بالأثر). رواه اللالكائي.

- وقال ابن عباس: (عليكم بالاستقامة والأثر، وإياكم والبدع).

- وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: (وعمل صالحاً ثم اهتدى) "أي: لزوم السنة" رواه اللالكائي في "أصول الاعتقاد" وابن بطة في " الشرح والإبانة".

- قال محمد ابن سيرين: (كانوا يرون أنهم على الطريق ما كانوا على الأثر). رواه اللالكائي، والدارمي.

- وقال الزهري: (الاعتصام بالسنة نجاة). رواه اللالكائي.

- وقال الأوزاعي: (ندور مع السنة حيث دارت). رواه اللالكائي.

- وقال: (عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول).

- وقال سفيان الثوري: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل).

- وقال: (وجدت الأمر الإتباع) رواه اللالكائي.

المبحث الثاني

فضل الدعوة إلى السنة والذب عنها

قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً). رواه مسلم وغيره عن أبى هريرة.

قال ابن عبد البر في "التمهيد":

(قال أبو عمر: حديث هذا الباب أبلغ شيء في فضائل تعليم العلم اليوم والدعاء إليه وإلى جميع سبل البر والخير، لأن الميت منها كثير جدا ومثل هذا الحديث في المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ينقطع عمل المرء بعده إلا من ثلاث علم علمه فعمل به بعده وصدقة موقوفة يجري عليه أجرها وولد صالح يدعو له"، وقد جمعنا والحمد لله من فضائل العلم وأهله في صدر كتاب "جامع بيان العلم وفضله" وما ينبغي في روايته وحمله ما فيه شفاء واستغناء والحمد لله) أ.هـ

2- وجاء مثله عن ابن عمر أخرجه الطبراني في "الكبير"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (وفيه عبيد الله بن تمام ضعفه البخاري وجماعة).   

- قال يحي بن يحي وهو من مشايخ مسلم: (الذب عن السنة أفضل من الجهاد).

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (4/13): (الراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحي بن يحي يقول: "الذب عن السنة أفضل من الجهاد").

الفصل الخامس

سبب الوقوع في البدع

ومع وجود هذه النصوص الكثيرة في التمسك بالسنة والحذر من البدع يقع أناس كثيرون في البدع، ولهم في ذلك أسباب مختلفة ودوافع متنوعة، ومن المهم للعالم معرفة هذه الأسباب والدوافع حتى يكون عنده تمييز سليم لأسباب البدعة، ويكون حكمه على صاحب البدعة حكما سليما، فالحكم على الجاهل يختلف عن غير الجاهل.

وإنما يقع من يقع في البدع بسبب أشياء:

1- فمن ذلك الجهل بالعلم الشرعي، أي: الجهل بكتاب الله وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والجهل بمقاصد الشريعة، والجهل بآثار السلف، وكلام العرب وأساليبها، وقواعد العلم وأصوله، فإن العالم بهذه الأمور لا يبتدع في الدين.

2- ومن ذلك الهوى: فإنه من أعظم أسباب والابتداع والزيادة في الدين.

3- ومن ذلك قلة العلم وعدم الرسوخ فيه، وقد علق الشاطبي على حديث عبد الله بن عمرو في "الصحيحين": (إن الله  لا يقبض  العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم إتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) قائلاً:

(قال بعض أهل العلم: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم،  فيؤتى الناس من قبله ، وقد صرف هذا المعنى تصريفاً، فقيل : ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان. قال ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتى من ليس بعالم).

4- ومن ذلك اتباع ما عليه الآباء والأجداد من العادات والأعراف.

وسكوت العلماء يعتبر من أكبر العوامل المتسببة في وقوع الناس في البدع وانتشارها، وإن لم يكن سببا مباشرها في صدور هذه البدع.

الفصل السادس

معرفـة البدع وتمييزها

المبحث الأول حاجة الفقيه إلى هذا العلم

لا شك أن الفقيه بحاجة عظيمة إلى معرفة السنة من البدعة، والهوى من الضلالة، ليميز بين الأمرين لنفسه وذلك في عبادته وسلوكه، وليميز بين الأمرين في دروسه وفتواه للناس.

والفقهاء على أقسام أحدهما: من يتوسع في الاستحسان، دون مراعاة القيود والضوابط في هذا الباب.

والثاني: من يجازف في الحكم على كثير من الأمور بالبدعة دون مراعاة لهذه القيود المذكورة بالبدعة.

والثالث: من يتوسط في الأمور كلها، وهذا الصنف هو اليوم أعز من الكبريت الأحمر.

المبحث الثاني

شروط الحكم على العمل بأنه بدعة

والحكم على العمل بأنه بدعة هو من وظيفة الراسخين في العلم، ولاسيما من كان راسخا في العلم في أمرين أحدهما: سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، والثاني: المعرفة التامة بأصول البدع، إلا أن يكون ممن ينقل عن أهل العلم، وإنما يحصل الخطأ في الحكم على عمل ما بقدر التقصير في هذين الأصلين.

والحكم على صاحب العمل بأنه مبتدع له شروط منها:

الأول: ينبغي أن يعرف أن المرء يخرج من أهل السنة بالخروج عن أصولها، ولذلك قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (4/425): (ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول، بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه).

الثاني: من الأمور المهمة في الحكم على الرجل بالبدعة هو التفريق بين أن يكون من أهل العلم المتحرين لمتابعة الشريعة ونصرتها ودعوة الناس إليها، وبين صاحب الهوى، فإن العلم المتحرين لمتابعة الشريعة إذا أخطئوا فإن خطأهم مغفور لهم عند الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" (1/283):

(مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم".

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه و سلم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا:  "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا") أ.هـ

وقال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين":

(ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين) أ.هـ

وقال شيخ الإسلام في "درء التعارض" (1/283) مبيناً أنه لا يجوز التشنيع على غلط المجتهد:

(ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صواباً بعد اجتهاده وهو من البدع المخالفة للسنة فإنه يلزمه نظير ذلك، أو وأعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقلّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب).

 

الفصل السابع

قواعد معرفة البدع

وهذه القواعد تنفع الفقيه، وتعطيه ملكة قويه في معرفة "أصول البدع"، فلابد من فهمها ومعرفتها، فإليك بعض هذه القواعد:

القاعدة الأولى

الأصل في العبادة التوقف

وهذه القاعدة مجمع عليها عند أهل العلم.

قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (31/35): (وذلك أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله فليس لأحد أن يجعل شيئاً عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي) أ.هـ

وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/): (فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر) أ.هـ

وقال ابن كثير في "تفسيره" في الكلام على القراءة وإهداء الثواب للموتى عند آية "النجم" (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) قال رحمه الله: (وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء) أ.هـ

وإنما قال أهل العلم إن الأصل في العبادات التوقف لأن العبادة مبناها على الدليل الوارد لا على الاستحسان والرأي، فالأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يؤيدها الدليل، فالعبادة لا تقبل إلا بشرطين:

الأول الإخلاص في العبادة.

الثاني موافقة النبي صلى الله عليه وسلم ومتابعته في القول والعمل.

فهذان الشرطان عامان لكل عبادة، ثم لكل عبادة شروط خاصة بها غير شروط سائر العبادات، فالصلاة مثلاً من شروطها الطهارة من الحدث والخبث وسَتر العورة واستقبال القبلة ودخول الوقت، وهذه شروط خاصة بالصلاة، وأما هذان الشرطان المذكوران فيدخلان في كل عبادة.

أدلة هذه القاعدة:

ولهذه القاعدة أدلة كثير من الكتاب والسنة وهي:

1- قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان عن عائشة.

2- حديث ابن عباس قال: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) رواه البخاري في "صحيحه".

والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقره إلا على نوع واحد من العبادة وهو الصيام لأنه مشروع، وأبطل باقي العبادات المتقرب بها لأنه ليست موافقة لسنته صلى الله عليه وسلم.

الحكمة في سد باب الرأي في العبادة:

وإنما سد هذا الباب على الناس لأمرين أحدهما: أن العبادة هي الطريقة الموصلة إلى مرضاة الله، ولا يعرف طريق مرضاته سبحانه إلا بما شرع هو سبحانه على لسان رسوله، لا بالرأي والاستحسان.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخفين أولى من ظاهرهما).

والثاني: أن الله لما جعل تشريع العبادة من وظيفة الشرع فقط سد على الناس باب الاختلاف والافتراق، إذ أن آراءهم مختلفة واستحساناتهم متباينة، فإذا فتح لهم باب الاستحسان اختلفوا وتفرقوا ومما يدل على ذلك أن أهل البدع ما إن يبتدعوا بدعة إلا ويختلفون فيها إلى أقوال وفرق ومذاهب.

القاعدة الثانية

البدعة هي التي يقصد بها التقرب إلى الله

وفائدة هذا الضابط في تحرير مفهوم البدعة هي التمييز بينها وبين ما أحدث بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يراد به التعبد بذاته، فخرج بذلك أمور:

أولاً أمور العادات:

فالأصل فيها الإباحة ولا يحرم منها شيء إلا بدليل ينص على التحريم والمنع، وهذا على خلاف باب "العبادات".

قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (4/194): (وربما ضم إلى ذلك من لم يُحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من العادة بمنزلة من "إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا").

وقال الشاطبي في "الاعتصام": (وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك، لأن الله تعالى يقول: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف، فرأى من نفسه أنه لا بد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.

وأيضاً فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد لها أمر لا تعهده، حصل بها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول، ولذلك قالوا: "لكل جديد لذة" بحكم هذا المعنى، كمن قال: كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور.

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "فيوشك قائل أن يقول ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتتبعني حتى أبتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة". وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات) أ.هـ

ثانياً الأمور الدنيوية:

فإذا جد جديد في الأمور الدنيوية كوسائل الاتصالات أو وسائل النقل أو غير ذلك، فليس على الناس في ذلك شيء إن اتبعوا ما جد من ذلك.

قال الشاطبي في "الاعتصام": (ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعاً وليس بمشروع) أ.هـ

القاعدة الثالثة

البدع كلها مذمومة

قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (4/194): (الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة) أ.هـ

ولهذه القاعدة أدلة معلومة ومشهورة ويمكن لنا هنا أن نستدل بدليلين على هذا العموم:

الأول: كان صلى الله عليه وسلم يكرر عليهم في المجامع بل وفي خطب الجمعة قوله: (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) وهذا عموم لأن لفظ (كل) من ألفاظ العموم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخصّص هذا العموم بشيء لا في المقام نفسه ولا بعده، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدل على هذا على أن البدع مذمومة مطلقاً، وأن كل بدعة قبيحة وإن رآها الناس حسنة.

قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (10/370):

(إن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" متعين وأنه يجب العمل بعمومه) أ.هـ

قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم":

(فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد" فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة).

الثاني: عمله المستمر صلى الله عليه وسلم على ذم البدع والمحدثات وكذلك عمل أصحابه رضي الله عنهم يؤكد عموم النهي عن البدع والمحدثات، فإن أصحابه لم يستحسنوا شيئاً، ولم يزيدوا في دينه، لا في حياته ولا بعد مماته.

فالبدع كلها مذمومة وليس هناك تفريق بين البدع باعتبار أن بعضها حسن وبعضها قبيح، بل كلها بدع مذمومة، وإنما تختلف من حيث الذم باختلاف حجم البدعة.

وأما ما ورد عن السلف من استحسان بعض البدع فهم يريدون بذلك الاستعمال اللغوي كما هو واضح كما قال عمر في التراويح، أما في استعمال الشرع فإنك لا تكاد تجد نصاً من الكتاب أو السنة ورد فيه لفظ البدعة إلا وهو في مقام الذم، وهذا يدل على أن البدعة بالاصطلاح الشرعي مذمومة على الإطلاق.

وإنما قال من قال إن هناك بدعة حسنة لأنه يرى أن البدعة هي ما حصل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان مما أمر الله به أو لا، فأهل العلم اختلفوا في ضابط البدع: هل كلها مذمومة، أو أن فيها ما هو حسن ؟! على قولين أحدهما: أن البدعة هي كل ما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان مذموماً أو محموداً، فمفهوم البدعة عندهم واسع.

والقول الثاني: يرى أهله أن البدعة إنما تطلق على ما حدث بعد موت النبي ولم يرد به الشرع ولم يندرج تحت أصل يعمل به مما يدخل في العبادة، وهذا هو الصحيح هو القول الثاني، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي والحافظ ابن حجر، وابن رجب الحنبلي في أول "جامع العلوم والحكم" وغيرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (4/107- 108):

(وقد قررنا في قاعدة السنة والبدعة: أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية: فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن. فما فعل بعده بأمره؛ من قتال المرتدين، والخوارج المارقين، وفارس، والترك، والروم، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وغير ذلك هو من سنته) أ.هـ

قال الشاطبي وهو يناقش تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة:

(إن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمورة بها أو المخير فيها) أ.هـ

وتظهر فائدة الخلاف فيما لو حصل شيء بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولكن قد ورد به الشرع كقتال المرتدين فإنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فعله أبو بكر بعد موته صلى الله عليه وسلم، وإجلاء اليهود لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فعله عمر بن الخطاب، وكذلك قتال الخوارج لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فعله علي بن أبي طالب، ونحو ذلك من الأمور، فالفريق الأول يقولون: مثل هذا من البدع المحمودة، والفريق الثاني يقولون: هو ليس من البدع أصلاً لأن السنة قد دلت عليه.

ومما تقدم نعلم أن الفقهاء متفقون على ذم ما حدث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم

ولم يكن عليه شرعي دليل وهو ما يسمى عندهم بالبدعة المذمومة، فإذا كانت البدعة الحسنة عند بعضهم هي مما حدث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولكن جاء الشرع بالأمر به، فالبدعة المذمومة هي ما لم يأمر به الشرع فصلاة الرغائب مذمومة عند الفقهاء ولم يستحسنها أحد من أهل العلم، وهذا رد على المبتدعة في هذا العصر لأنهم أطلقوا الاستحسان لأهوائهم.

القاعدة الرابعة

التفصيل فيما أحدث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/594): (والضابط في هذا - والله أعلم - أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه و سلم لمعارض قد زال بموته.

وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم موجوداً لو كان مصلحة ولم يفعل يعلم أنه ليس بمصلحة، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة) أ.هـ

مثال على وجود الداعي بعد موته صلى الله عليه وسلم:

فأما إذا وجد الداعي بعد عهده صلى الله عليه وفعله الناس فلا يكون بدعة كمسألة جمع المصحف، ويخطئ بعض الناس عندما يعتبرون أن جمع المصحف من البدع لأنه لم يجمع بهذه الهيئة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غلط أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة القرآن في أول الأمر فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عنى شيئا إلا القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه) رواه مسلم في "صحيحه"، وربنا أخبر أن القرآن كتاب فقال: (ذلك الكتاب لا ريب فيه).

وإنما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه في عهده لأن الوحي كان يتنزل وقد يكون هناك ناسخ ومنسوخ ومقدم ومؤخر ونحو ذلك مما يكون سبباً في عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه في عهده لاحتمال الزيادة والنقصان.

مثال على وجود المانع في عهده  صلى الله عليه وسلم:

روى الشيخان من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها).

فهذا المانع وهو الخوف من أن تفرض على الأمة كان موجوداً في عهده صلى الله عليه وسلم ثم زال بعد موته صلى الله عليه وسلم ولذلك أحياها عمر في عهده رضي الله عنه.

القاعدة الخامسة

البدعة نوعان حقيقية، وإضافية

قسم الشاطبي البدعة في "الاعتصام" إلى قسمين:

أحدهما البدعة الحقيقية: وقد ذكر رحمه الله أنها التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل.

والثاني البدعة الإضافية:

وقد ذكر رحمه الله أنها التي دل عليها الشرع بالجملة لكن تحديدها بكيفية معينة أو وقت معين أو زمان معين لم يدل عليه الدليل، وإنما سميت إضافية لأنها تضاف إلى الشرع من وجه، وتباين الشرع من وجه آخر، فهذه هي مشكلتها لذلك سماها العلماء: بالبدعة الإضافية، أي: لأنها أضيفت إلى الشرع ظلماً وزوراً.

وبعض الناس يظن أن البدعة هي ما كانت من الصنف الأول فقط، كما يظنه كثير من الفقهاء فضلاً عن عامة الناس، ولذلك قد يقع الإنسان فيها بدون علم، فمن هنا ينبه العلماء على هذين القسمين، فالبدعة لها صورتان:

الأولى: التي لا يكون لها أصل شرعي، من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو إقراره.

والثانية: ما كان لها دليل عام لكن ليس لصفتها أو لهيئتها دليل خاص يدل عليها وهذه هي البدعة الإضافية.

القاعدة السادسة

كيفية العبادة توقيفية

أي: تحتاج إلى دليل، وهذه القاعدة مندرجة تحت القاعدة السابقة لكن تحتاج إلى مزيد توضيح وبيان، فهذه القاعدة يدل عليها عدة أدلة، منها: حديث أنس يقول جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلى الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) رواه الشيخان.

الثاني: قصة ابن مسعود مع أصحاب الحلق، فقد أخرج الدارمي في "سننه" وبحشل في "تاريخ واسط" من طريقين عن عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني قال : حدثني أبي قال: حدثني أبي قال: " كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، و لم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم ؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء ؟ ثم مضى و مضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، و هذه ثيابه لم تبل، و آنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: "إن قوماً يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم! ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج) أ.هـ وقد صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة": برقم (2005).

وقد ذكر بعض العصريين أن إنكار ابن مسعود على أصحاب الحلق إنما لأنهم من الخوارج، وهذا مردود بأمور منها أن ابن مسعود إنما أنكر عليهم لحصول هذه الكيفية الغريبة في الذكر وكذلك أنتكر أبو موسى الأشعري حيث قال: (لقد رأيت في المسجد شيئا عجبا).

وأنكر ابن مسعود كذلك عليهم بعد أن بلغه فعلهم هذا دون أن يعرف من هؤلاء، وإنما جاء حكمه عليهم بأن يخشى أن يكونوا من الخوارج لأنهم ابتدعوا هذه البدعة، فالبدع تجر إلى ما هو أكبر منها.     

القاعدة السابعة

التفريق بين الفعل والفاعل

ومعنى ذلك أن المسلم قد يقول قولا يرتكب عملا كفريا أو بدعيا، ويكون هو نفسه معذورا عند الله لجهله أو لتقليده أو لغير ذلك من الموانع، بل قد يكون مجتهداً مخطئاً مأجور على خطأه فلا بد قبل التكفير أو التبديع من توافر الشروط وانتفاء الموانع، فليس كل من وقع في بدعة يكون مبتدعاً.

القاعدة الثامنة

التفريق بين البدعة المفسقة والبدعة المكفرة

البدعة من حيث إخراج صاحبها من الدين تنقسم إلى قسمين إحدهما: بدعة مفسقة، والثانية: بدعة مكفرة.

والبدعتان مذمومتان إلا أنهما تختلفان من حيث الحكم على صاحبهما، فالبدعة المفسقة لا تخرج صاحبها من الإسلام كما هو شأن كثير من البدع في باب الذكر كرفع الصوت بالذكر والذكر الجماعي ونحوهما، وفي باب الجنائز وفي باب الإحداد على الميت وغيرها.

والبدعة المكفرة صاحبها خارج من الإسلام إذا أقيمت عليه الحجة الرسالية، ولذلك وجدنا من الأئمة من قد يحكم على بدعة بعينها بأنها مكفرة كما قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: (من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر). وكما قال غيره من الأئمة: (من قال بخلق القرآن فقد كفر).

والبدعة المكفرة له ضوابط منها: ومنها أن "كل بدعة نصت الشريعة عليها بأنها مكفرة فهي كذلك"، ومنها أن "كل بدعة تتضمن صرف شيء من التعبدات لغير الله تعالى فإنها بدعة مكفرة"، ومنها أن "كل بدعة تتضمن إنكار شيء معلوم من الدين بالضرورة فهي مكفرة"، ومنها: أن "كل بدعة تتضمن خرق الإجماع القطعي فهي مكفرة"، ومنها: أن "كل بدعة تعود على أصل الشرع بالإبطال فهي مكفرة".

القاعدة التاسعة

عموم البدعة في كل ما أحدث في الدين

فمفهوم البدعة عام، فقد تكون البدعة في العقائد وقد تكون في العبادات وقد تكون في الأخلاق والسلوك، وقد تكون في باب الدعوة إلى الله، وقد تكون فعلية وقد تكون تركية.

وهذا القاعدة يراد منها بيان أن البدعة لا تقتصر العقائد أو باب العبادات فقط، ولا تقتصر على الأفعال فقط، بل قد تكون البدعة في باب الترك، إذا كان مقصوده  التعبد لله تعالى بذلك.

قال الشاطبي رحمه الله في "الاعتصام": (فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم).

ومن المهم النظر في دوافع هذا الترك وأسبابه، فمن ترك المشروع قربة لله تعالى كان هذا الترك بدعة، ومن تركه لعذر آخر لم يكن تركه بدعة، كأن يترك طعاماً يضره  أو لباساً لا يناسبه أو غير ذلك، فهذا ليس كمن تركه تقرباً إلى الله تعالى وتزهداً في الدنيا مع كونه من المباحات المعروفة التي اشتهر بين الناس إباحتها.