قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

هل للناس الحرية في اعتقادهم ودينهم ؟

عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"([1]).

في هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه و سلم أنه أمر بأن يدعو الناس إلى الإسلام: عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتبعوه في بلاغه عن ربه، فلا حرية لأحد في اعتقاده، بل لابد من الدخول في الإسلام أو القتال.

ويؤيده قوله تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? (الأنفال:39).

وخرج من هذا الحكم أهل الكتاب، فلهم أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية، فقال جل وعلا: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? (التوبة:29).

بل بين الله جل وعلا أنه لا يقبل بعد بعثة الرسول صلى الله عليه و سلم إلا الإسلام فقال جل في علاه: ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ? (آل عمران:85).

  وقال جل وعلا: ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ? (آل عمران:19).

وقرر هذا المعنى رسول الله.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ"([2]).

يعني أنه كافر مخلد في النار؛ فمن لم يكفر الكافر؛ كذَّب الله تعالى ورسوله  صلى الله عليه وسلم.

ومن شك في كفر اليهود أو في كفر النصارى أو في كفر المشركين فقد شك في صدق كلام الله وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن شك في صدق كلام الله وكلام الرسول فقد كفر، قال تبارك وتعالى: ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً? (النساء:122).

فلم يترك صلى الله عليه و سلم الحرية لمن علم ما جاء به صلى الله عليه و سلم من الإسلام وعرف الرسول صلى الله عليه و سلم ودعوته؛ في البقاء على يهوديته أو نصرانيته، فمن سمع به صلى الله عليه و سلم ولم يؤمن به إلا كان من أصحاب النار.

ووقت الله جل وعلا لأهل العهد عهدهم، وبعدها لم يترك لأحد حرية الاعتقاد؛ فقال سبحانه وتعالى في سورة التوبة: ?فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{5}?.

و الواجب إتباع الدين وإن كنت كارهاً.

عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل([3]): أسلم. قال: إني أجدني كارهاً. قال: وإن كنت كارهاً"([4]).

وفي جهاد الطلب يدعى من نطلبه إلى الإسلام، فإن أجاب فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وإلا قاتلناهم. إلا إذا كانوا أهل كتاب فإنا ندعوهم إلى  الإسلام فإن امتنعوا دعوناهم إلى الجزية، فإن امتنعوا قاتلناهم، وهذا معنى قول الله تبارك وتعالى: ?لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? (البقرة:256).

قال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعا أو كرها أنزل الله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ? فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام.

وعلى هذا المعنى ما ورد في سبب نزول الآية.

عن ابن عباسِ، قال: كانت المرأةُ تكونُ مِقْلاتاً، فتجعلُ على نفسِها إن عاشَ لها ولدٌ أن تُهَوِّدهُ، فلما أُجلِيتْ بنو النَّضيرِ كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندَع أبناءنا، فأنزل اللهُ عزَّ وجل: ?لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ? (البقرة: 256)"([5]). قَالَ أَبُو دَاوُد: الْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ.

قال الخطابي رحمه الله، في كلامه على هذا الحديث: "وفيه دليل على أن من انتقل من كفر وشرك إلى يهودية أو نصرانية قبل مجيء دين الإسلام فإنه يقر على ما كان انتقل إليه وكان سبيله أهل الكتاب في أخذ الجزية منه وجواز مناكحته واستباحة ذبيحته. فأما من انتقل عن شرك إلى يهودية أو نصرانية بعد وقوع نسخ اليهودية وتبديل ملة النصرانية فإنه لا يقر على ذلك ، وأما قوله سبحانه: ?لا إكراه في الدين? (البقرة : 256)، فإن حكم الآية مقصور على ما نزلت فيه من قصة اليهود ، فأما إكراه الكفار على دين الحق فواجب ولهذا قاتلناهم على أن يسلموا أو يؤدوا الجزية ويرضوا بحكم الدين عليهم"اهـ([6]).

قال الشوكاني رحمه الله: "قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: ?لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ? عَلَى أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لأن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَالنَّاسِخُ لها: قوله تعالى: ?يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ? (التوبة: 73) وقال تعالى: ?يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ? (التوبة: 123)، وَقَالَ: ?سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ?  (الفتح: 16)، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، بَلِ الَّذِينَ يُكْرَهُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْأَنْصَارِ خَاصَّةً([7]).

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ تَحْتَ السَّيْفِ: إِنَّهُ مُكْرَهٌ، فَلَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.

الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي السَّبْيِ مَتَى كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَيْ: لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ، وَبَرَاهِينُهُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا سَادِسًا.

وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَيْ: لَمْ يُجْرِ اللَّهُ أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّمْكِينِ وَالِاخْتِيَارِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: ?وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ? (يونس:99)، أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَسَرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَبُنِيَ الْأَمْرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا سَابِعًا.

وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَيَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ: أَنَّهَا فِي السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهُوَ: "أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاةً لَا يَكَادُ يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أجليت يهود بني النضير كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا. فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ وُجُوهٍ، حَاصِلُهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ زِيَادَاتٍ تَتَضَمَّنُ أَنَّ الْأَنْصَارَ قَالُوا: إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، أَيْ: دِينِ الْيَهُودِ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِينِنَا، وَأَنَّ اللَّهَ جَاءَ بِالْإِسْلَامِ فَلَنُكْرِهَنَّهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ خَيَّرَ الْأَبْنَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا اخْتَارُوا الْبَقَاءَ عَلَى دِينِهِمْ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَعُمُّهُمْ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَتَعْرِيفِ الدِّينِ يُفِيدَانِ ذَلِكَ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَكِنْ قَدْ خُصَّ هَذَا الْعُمُومُ بِمَا وَرَدَ مِنْ آيَاتٍ فِي إِكْرَاهِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِسْلَامِ"اهـ([8]).

ويؤكد ذلك ما جاء عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: "أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ، لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ" وَلَقَتَلْتُهُمْ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "َنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"([9]).

فإن قيل : قول الله جل وعلا : ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ? (يونس:99)، ألا يدل على حرية الاعتقاد، وأنه لا يجوز أن يكره أحد على الإسلام؟!

وكذا قوله تعالى : ?لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ? (الغاشية:22)، فليس للرسول صلى الله عليه و سلم إكراه أحد أو السيطرة على أحد ليسلم.

وكذا قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ? (آل عمران:90)، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا? (النساء:137)، ألا يدل على بطلان ما ورد في حد الردة؟

فالجواب :

  قوله جل وعلا : ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ? (يونس:99)، فيه بيان : أن الله جل وعلا هو الذي شاء وجود الكفر، وهذه مشيئة كونيه، وأن الرسول صلى الله عليه و سلم ليس بيده تغيير ذلك. فالآية تبين أن تقدير وجود الكفر والكفار أمر كوني لا يمكن الرسول صلى الله عليه و سلم تغييره، كما لا يملك الرسول صلى الله عليه و سلم أن يقبل الناس الحق، وأن يكونوا مسلمين، فهو لا يسيطر على قلوب الناس، و لا يملك هدايتهم لقبول الحق، وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: ?لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ? (الغاشية:22)، فالآية كقوله تعالى: ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ? (القصص:56) .

قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: "قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسِفَ بِمَوْتِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِهِ.

وَلَمَّا كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَأَسْعَى فِي وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ وَالْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ اجْتِهَادًا فِي نَجَاةِ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَذَابِ، أَخْبَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ أَهْلًا لِلسَّعَادَةِ وَأَهْلًا لِلشَّقَاوَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ كُلِّهِمْ لَفَعَلَ، وَأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدٍ.

وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَاهِرَةَ وَالْمَشِيئَةَ النَّافِذَةَ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ تَعَالَى.

وَتَقْدِيمُ الِاسْمِ فِي الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ حُصُولِ الْفِعْلِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى الْإِيمَانِ لَوْ شَاءَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ"اهـ([10]).

قال ابن كثير رحمه الله: " يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ لَأَذِنَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ فَآمَنُوا كُلُّهُمْ وَلَكِنْ لَهُ حكمة فيما يفعله تعالى كقوله تَعَالَى: ?وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? [هُودٍ: 118- 119]، وَقَالَ تَعَالَى: ?أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً? [الرَّعْدِ: 31]؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ?أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ? أَيْ تُلْزِمُهُمْ وَتُلْجِئُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ عليك ولا إليك بل ?اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ? [النحل: 93]، ?فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ? [فَاطِرٍ: 8]، ?لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ? [الْبَقَرَةِ: 272] ?لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ? [الشُّعَرَاءِ: 3] ، ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ? [الْقَصَصِ: 56]، ?فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ? [الرَّعْدِ:40]، ?فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ? [الْغَاشِيَةِ: 21- 22]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ الْهَادِي مَنْ يَشَاءُ الْمُضِلُّ لِمَنْ يَشَاءُ لِعِلْمِهِ وحكمته وعدله؛ ولهذا قال تعالى: ?وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ وَهُوَ الْخَبَالُ وَالضَّلَالُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ? أَيْ حُجَجَ اللَّهِ وَأَدِلَّتَهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فِي هِدَايَةِ من هدى وإضلال من ضل"اهـ([11]).

أما قوله تبارك وتعالى: قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ? (آل عمران:90)، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا? (النساء:137)، فلا يدل على نفي حد الردة، غاية ما دلت عليه الآيتان : أن من ارتد فهو كافر، وأنه في ضلال، وأن من تكرر منه الإسلام ثم الكفر ، ثم الإسلام ثم الكفر ، ومات عليه، لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا.

قال ابن كثير رحمه الله: "يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ وَازْدَادَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ لَا تَوْبَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى، وَلِهَذَا قَالَ: ?لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا?"اهـ([12]).

فالآية لا تنفي حد الردة.

وأمرنا الله أن نأخذ ما آتانا به الرسول صلى الله عليه و سلم.

قال جل وعلا: ?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا? (النساء:65) .

وقال: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? (النور:63).

وقال : ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا? (الأحزاب:36).

وقال: ?وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ? (الحشر:7). والله الموفق لا رب لي سواه.

 

الشيخ محمد بازمول

 


([1]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب ?فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة?، حديث رقم (25)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لاإله إلا الله ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم (22).

 

([2]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم (153).

([3]) وهو من بني النجار من أخوال الرسول صلى الله عليه و سلم، أخرج أحمد في المسند (الرسالة 20/ 18، تحت رقم 12543) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَالُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ . فَقَالَ: أَوَ خَالٌ أَنَا أَوْ عَمٌّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا بَلْ خَالٌ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، قَالَ: خَيْرٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ ". والحديث قال محققوا المسند "إسناده صحيح على شرط مسلم"اهـ

([4]) أخرجه أحمد في المسند (3/181الميمنية)، (19/117، تحت رقم 12061)، قال ابن كثير في كتابه التفسير (1/683): "إسناده ثلاثي صحيح"اهـ، وقال محققو المسند : "إسناده صحيح على شرط الشيخين"اهـ.

([5]) ) أخرجه أبوداود  في كتاب الجهاد، باب في الأسير يُكرهُ على الإسلام، حديث رقم (6282). وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود: "صحيح"اهـ، وقال  الأرنؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود: "إسناده صحيح"اهـ

([6]) معالم السنن للخطابي  (2/ 286).

([7])  قلت: ودليله حديث ابن عباس رضي الله عنه المذكور قبل قليل، وسيذكره الشوكاني رحمه الله.

([8]) فتح القدير للشوكاني (1/ 315 - 316) باختصار يسير.

([9]) أخرجه البخاري في كِتَابُ اسْتِتَابَةِ المُرْتَدِّينَ وَالمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ ، بَابُ حُكْمِ المُرْتَدِّ وَالمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ، حديث رقم (6922).

([10]) البحر المحيط في التفسير (6/ 108).

([11]) تفسير ابن كثير /العلمية (4/ 259).

([12]) تفسير ابن كثير / العلمية (2/ 384).