قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

حقيقة الشرك - وقت وقوع الشرك في الأمم، وكيفية وقوعه - أنواع و أقسام الشرك


حقيقة الشرك:
من المهم فهم تعريف الشرك لتصور حقيقته، وفهم المسائل المترتبة عليه والمتفرعة منه.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (9/59): (ومعرفة حدود الأسماء واجبة لأنه بها تقوم مصلحة بني آدم في النطق الذي جعله الله رحمة لهم لاسيما حدود ما أنزل الله في كتبه من الأسماء كالخمر والربا، فهذه الحدود هي الفاصلة المميزة بين ما يدخل في المسمى ويتناوله ذلك الاسم وما دل عليه من الصفات، وبين ما ليس كذلك) أ.هـ
فلذلك كان من المهم أن يضبط العلماء تعريف الشرك ويبينوا حقيقته بتعريف جامع مانع، ومن هنا سلكنا هذا المسلك فنقول وبالله التوفيق:

المبحث الأول: تعريف الشرك:


الشرك لغة: هو النصيب، ومنه قوله تعالى: (ما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) وقوله: (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات).
والشرك شرعاً: "هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله تعالى"، ومن المعلوم أن خصائص الله ترجع إلى "الربوبية"، و"الألوهية"، و"الأسماء والصفات"، وعليه فإن الشرك يدخل في هذه الأبواب الثلاثة، وسيأتي زيادة توضيح لمثل هذه الأمور.
وقولنا: (غير الله) يشمل كل مخلوق، سواء كان هذا المخلوق من الملائكة أو من الإنس أو من الجن، فلا فرق بين شرك وشرك، ولا مخلوق ومخلوق.
وهناك من يعرف الشرك – وهو في مقام التأصيل والتفصيل - بأنه: (عبادة غير الله تعالى)، وهذا تعريف قاصر، لأن هذا محصور بـ "باب الألوهية" فقط، فأين الشرك في "باب الربوبية" و "باب الأسماء والصفات" ؟!
وأما قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي في رسالة (ثلاثة الأصول) حيث عرف التوحيد والشرك فقال: (وأعظم ما أمر الله به التوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو دعوة غيره معه).
فيجاب بأن الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله له عذره، فقد ألف رسالته معتنياً بتوحيد الألوهية عناية زائدة لأن وقته كان مليئاً بالخلل في هذا النوع.
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في: "الكبائر" في تعريف الشرك: (الشرك: هو جعل شريك لله سبحانه وتعالى في ربوبيته وإلهيته، والغالب الإشراك في الألوهية بأن يدعو مع الله غيره، أو يصرف له شيئاً من أنواع العبادة كالذبح لغير الله أو النذر أو الخوف أو الدعاء).
وهناك فوائد كثيرة تترتب على معرفة حقيقة الشرك، منها:
1- خوف الإنسان على نفسه من أن يقع في شيء من صور الشرك أو شيء من فروعه.
2- اكتساب معرفة تامة بحقيقة الشرك، وقدرة على التمييز بين صوره المختلفة، بحيث يعرف الطالب أن هذه المسألة من الشرك أو أنها ليست كذلك.

المبحث الثاني: الشرك الأكبر محدود وليس معدوداً:


اختلف العلماء في الشرك الأكبر: هل هو معدود أو محدود ؟! على قولين، ووجه الفرق بينهما أن المحدود: هو ما له حد أي: تعريف، وعليه فتدخل فيه صور كثيرة وجزئيات لا تحصى، وأما المعدود: فهو ما كانت صور الشرك فيه معدودة، وهي ما نص عليها الشارع فقط، فلا تزيد عليها.
والصحيح من القولين أن الشرك محدود، أي: له تعريف فتدخل تحته جزئيات لا تحصى، وصور لا تعد، وقد تقدم معنا تعريف الشرك وأنه تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، وعليه فتدخل في هذا التعريف صور كثيرة قد تتجدد مع مرور الأيام والليالي، وإن لم ينص عليها الشارع أنه من الشرك، وقد تقدم معنا أن القاعدة تقول: (الشيء إذا ثبت أنه عبادة فصرفه لغير الله شرك) وهذه القاعدة تدخل فيها صور كثيرة وإن لم ينص الشارع عليها بذاتها.
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (1/376): (والشرك أنواع كثيرة لا يحصيها إلا الله).
وهذا الخلاف إنما هو في الشرك الأكبر، أما الشرك الأصغر فسيأتي الكلام عليه.

المبحث الثالث: خطورة الشرك:


إن بيان خطورة الشرك وسوء آثاره على الأفراد والمجتمعات يعتبر فرعاً من بيان حقيقة الشرك، ولذلك أوردناه هنا في فصل: "حقيقة الشرك".
وخطورة الشرك لا تخفى على موحد، فالشرك خطره عظيم ونعرف ذلك من عدة أوجه:
1- فهو أعظم الظلم لأنه تعلق بحق الله تعالى، قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم)، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن عبد غير الله فقد وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، وذلك أعظم الظلم.
2- لأن الله أخبر أنه لا يغفر لمن مات عليه ولم يتب منه، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وعليه فالمشرك خالد مخلد في نار جهنم قال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
4- أن الشرك يحبط جميع الأعمال الصالحة، قال تعالى: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون). وقال تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين).
5- أن المشرك حلال الدم والمال، قال تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها).
6- إن الشرك أكبر الكبائر قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) الحديث.
قال العلامة ابن القيم في "الجواب الكافي": (فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيداً لهم لما تركوا القيام بعبوديته وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً أو يقبل فيه شفاعة أو يستجيب له فى الآخرة دعوة، أو يقبل له عشرة فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه نداً وذلك غاية الجهل به كما أنه غاية الظلم منه وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه) أ.هـ
7- أن الشرك تنقص نزه الرب سبحانه نفسه عنه فمن أشرك بالله فقد أثبت لله ما نزه نفسه عنه، وهذا غاية المحادة لله تعالى، وغاية المعاندة والمشاقة لله.
8- أن الشرك يفسد العقول، فالمشركون من أفسد الناس عقولاً، وقد قال الله فيهم: (وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
والدلائل على فساد عقل المشرك كثيرة، ويكفينا هنا أن نذكر هنا قصةً لطالب مسلم يدرس في "كلية" من جامعات "الهند" على بروفيسور من عباقرة الأساتذة، دخل عليهم الأستاذ ليلقي المحاضرة، وبعد الانتهاء من المحاضرة يقترب الطالب من المدرس ليلقي عليه بعض الإشكالات التي واجهته، فيفاجأ بريحة عفنة تصدر من الأستاذ !! فقال له الطالب: " ما هذا يا أستاذ؟!" فقال له: هذه ريحة بول الآلهة - أي البقرة - !! فالدكتور لا يخرج إلى الكلية إلا وقد تلطخ ببول البقرة تبركاً، ووقايةً من الأعين !! ولا يجد في ذلك أدنى خجل، ولا وجد أدنى غضاضة من أن يصرح لهذا الطالب بالحقيقة، وهذا الشيء لا يتردد في استنكاره عندنا الشخص الأمي الذي يعيش في أرياف المسلمين.
فهذه البقرة خلقها الله لابن آدم، وخلق له ما فيها من اللحم واللبن والجلود وغير ذلك، ثم يسخر نفسه عبداً لهذه النعمة !! وكم تموت من الأبقار في الهند يومياً دون أن يستفاد منها مع أن الهند من بلاد المجاعات.
بل فساد المعتقد جرّ الإنسان إلى أن يعبد الفأر، ويجعله نداً لله في العبادة !! وهناك ثلاثة آلاف وثن يعبد في "الهند"من دون الله، ما بين بقرة وفأر وغيرهما، حتى الفروج تُعبد من دون الله !! في عصر قفزت فيه التكنولوجيا إلى أرقى المستويات، نسأل الله السلامة والعافية.
9- والشرك له أثر كبير على القلوب فهو يفسدها ويوهنها، فالفارس الشجاع الذي لا يبارى في المعارك، تجده يخاف من أحقر الأشياء، بل يخاف من أشياء وهمية لا حقيقة لها، ولذلك فإننا نجد أن الأمراض النفسية والعقلية كثيرة في المجتمعات الغربية، وغالبها يؤدي إلى الانتحار.
10- الشرك كما يفسد العقول كذلك يفسد الأخلاق، ولذلك أفسد الأخلاق هي أخلاق المشركين، وفيهم من الفواحش بقدر تعلق قلوبهم بغير الله تعالى.
والذي يتأمل في أحوال الغرب يجد غرائب وعجائب كثيرة، منها ما يتحدث به الغرب مؤخراً من الحرية الجنسية من الشذوذ الجنسي بشتى صوره ومختلف أنواعه، لأنهم يرون أن إرخاء العنان لهذه الشهوات من علامات التحضر والترقي، وكل هذا يدل على فساد عقليات المشركين وأخلاقهم.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (10/135-136): (ولهذا لما كان يوسف محباً لله مخلصاً له الدين لم يبتل بذلك، بل قال تعالى عن يوسف: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها فلذلك ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق أحدهما: إنابته إلى الله ومحبته له فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوق تزاحمه.
والثاني خوفه من الله فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه) أ.هـ
فظهر لنا من هذه الأوجه أن الشرك أعظم الظلم وأنه أكبر الكبائر، وأنه يبيح الدم والمال وأنه يفسد العقول والأخلاق، وأن له تأثيراً عظيماً ومباشراً على مصير الإنسان في الآخرة.

الفصل الثاني:



وقت وقوع الشرك في الأمم، وكيفية وقوعه:


هذا الفصل سنعرض فيه بداية وقوع الشرك في الأمم وكيف كان وقوعه، لأن هذا يساعد على فهم حقيقة الشرك القديم والجديد، ومعرفة مدى العلاقة بينهما، فإنها وإن تغيرت الصور على مدى الأزمان لكن الحقيقة واحدة.
قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم": (ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، ويعرف ما كرهه الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة، وغيره من العلماء) أ.هـ

المبحث الأول: وقت وقوع الشرك:


كان الناس أمة واحدة على التوحيد والفطرة من عهد آدم إلى قبيل عهد نوح عليهما الصلاة والسـلام، حتى طرأ على بعض الناس ما يفسد فطرتهم فدخل الشرك عليهم، وأول ما دخل الشرك كان قبل أن يرسل الله نوحاً إلى قومه، حيث عبد الناس أناساً صالحين، فبعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام وهو أول رسول أرسل إلى قوم مشركين.
ثم أرسل الله رسله تترى كلما ظهر الشرك في الناس بعث الله إلى الناس من ينذرهم من هذا الشرك ويحذرهم منه ويدعوهم إلى التوحيد، وكل شرك ظهر في الناس كان مدخله هو مدخل الشرك الذي حصل في قوم نوح وهو اتخاذ الصالحين واسطة بينهم وبين الله.
إلى أن جاء الشرك في جزيرة العرب، فقد كان الناس في جزيرة العرب على ملة إبراهيم حتى جاء رجل يقال له عمرو بن لحي الخزاعي، فأخرج الأصنام التي عبدها قوم نوح من رمال الشام بوحي من الشيطان فنقلها إلى جزيرة العرب، ودعا الناس إلى عبادتها فاستجابوا له لما له بينهم من جاه وسلطان.

المبحث الثاني: كيف كان وقوع بدايته وأوله:


روى البخاري في "صحيحه" برقم: (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت).
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (1/167): (وقد استفاض عن ابن عباس وغيره في "صحيح البخاري "وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء في قوله: (وقالوا لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس: ثم صارت هؤلاء الأوثان في قبائل العرب) أ.هـ
ثم جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فبقي الناس على ملته قروناً كثيرة، حتى جاء من غيّر ملته فأحيى عبادة الأصنام مرة أخرى، وكان أول من أحيى عبادة الأصنام بين العرب هو عمرو بن لحي الخزاعي، فقد كان الناس على ملة إبراهيم حتى جاء هذا الرجل فأخرجها في بعض أسفاره من الرمال بوحي من الشيطان فنقلها إلى جزيرة العرب، ودعا الناس إلى عبادتها فاستجابوا له لما له بينهم من جاه وسلطان.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري":
(وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن الكلبي قال: "كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة ثم ائت سِيْفَ جدَّة، تجد بها أصناماً معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب، قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب) أ.هـ

المبحث الثالث: تنوع الشرك الذي وقعت فيع الأمم:


ويبنغي أن يعرف أن أكثر شرك الأمم حصل من جهتين:

الجهة الأولى من جهة اتخاذ الصالحين وسائط فيما بين الناس وبين ربهم:


وهو الذي وقع فيه قوم نوح ومن كان على طريقتهم، وإنما عبدوا هذه الأوثان لأنهم اعتقدوا أن هؤلاء الصالحين لهم مكانة عظيمة عند الله، فهم يتوسطون لهم في جلب المنافع ودفع الضرر.
وزاد تعلق المشركين بهذه الأوثان لما رأوا أن هذه الأوثان تخاطبهم وتدلهم على أماكن ضوالهم، ففتنوا بها فتنة عظيمة قل من ينجو منها، وإنما تتخاطب معهم الشياطين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما "مجموع الفتاوى" (11/287-288): (ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك الحي مسلماً أو نصرانياً أو مشركاً، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين).
وقال رحمه الله (11/292-293): (والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها - كما يفعل أهل دعوة الكواكب - فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب وهو شيطان، والشيطان - وإن أعان الانسان على بعض مقاصده - فانه يضره أضعاف ما ينفعه وعاقبة من أطاعه إلى شر الا أن يتوب الله عليه وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب).
وقال رحمه الله كما في "تلخيص الاستغاثة": (وكذلك عباد الكواكب والأصنام قد تخاطبهم الشياطين وتحصل لهم بعض مطالبهم.
ودعاء الغائبين والأموات من هذا الباب، فقد يحصل أحياناً أن شيطاناً يتمثل للداعي وقد يحصل بعض مطالبه).

والجهة الثانية: عبادة الكواكب وهو الذي وقع فيه قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام:


وشبهة عباد الكواكب نشأتمن تعلقهم بالملائكة، واعتقاد أن واسطة فيما بينهم وبين الله، وأن الله وكل إليهم تصريف هذا العالم، ثم اعتقدوا أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى، وتصوروا أنها أحياء ناطقة مدبرة للعالم، وأنها بالنسبة للملائكة كالجسد للروح، فهي الهياكل والملائكة هي الأرواح، وأن لها صفات مخصوصة استحقت أن تكون آلهة تعبد.
فجرهم هذا إلى التقرب إلى هذه الهياكل المزعومة - وهي الكواكب – وهو في الحقيقة تقرب إلى هذه الأرواح - وهي الملائكة – لتقربهم إلى الله تعالى، وهؤلاء يسمون أصحاب الهياكل.
ولما كانت هذه الكواكب يختفي أكثرها في النهار وفي بعض الليل - لما يعرض من الغيوم والضباب ونحو ذلك - رأوا أن ينصبوا لهذه الكواكب أصناماً وتماثيل على هيئة الكواكب السبعة (الشمس والقمر والزهرة والمشتري وعطارد والمريخ وزحل) حينما تصدر أفعالها عنها كما يزعمون كل تمثال يقابل هيكلاً، واعتقدوا أن التقرب إلى هذه الأصنام هو (الوسيلة) إلى الهيكل (الكواكب) التي هي وسيلة إلى معاينات الملائكة التي هي وسيلة إلى الله تعالى، وهؤلاء يسمون أصحاب الأشخاص.
قال شيخ الإسلام في "الرد على المنطقيين":
(والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين: أولهما: تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون الشرك وهو شرك قوم نوح...
والسبب الثاني: عبادة الكواكب فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم، ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب، ويتكلمون عليها بالشرك والكفر، فتأتى الشياطين فتكلمهم وتقضي بعض حوائجهم ويسمونها روحانية الكواكب وهي الشيطان أو الشيطانة التي تضلهم) أ.هـ
وقال كما في "مجموع الفتاوى" (17/460): (وإنما المقصود أن أصل الشرك في العالم كان من عبادة البشر الصالحين وعبادة تماثيلهم وهم المقصودون، ومن الشرك ما كان أصله عبادة الكواكب إما الشمس وإما القمر وإما غيرهما، وصورت الأصنام طلاسم لتلك الكواكب، وشرك قوم إبراهيم - والله أعلم - كان من هذا أو كان بعضه من هذا).
ونحن لا نقول إن صور الشرك محصورة بهاتين الصورتين لأن صور الشرك كثيرة ومتنوعة وأسبابها مختلفة، ولكن هاتان الصورتان هما أغلب الصور وأشهرها كما يشير إلى ذلك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: (والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين).

المبحث الرابع: أصل الشرك عبادة الشيطان:


وكل شرك حصل على ظهر الأرض فإنما هو في الحقيقة عبادة للشيطان وإن تنوعت هذه المعبودات هذا على الصحيح وهو قول شيخ الإسلام رحمه الله، فقد قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) وقال عن إبراهيم: (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كلن للرحمن عصياً).
قال شيخ الإسلام في "إقامة الدليل": (والذين يعبدون الشيطان أكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان, بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم ويسجدون لهم فهم في الحقيقة إنما عبدوا الشيطان , وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد الله الصالحين, قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) أ.هـ بتصرف.
وقال كما في "مجموع الفتاوى" (14/283): (وكل من عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء).
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من عبادة الشيطان في الآية هو طاعته في اتباع أوامره بالشرك، فهي ليست عبادة مباشرة له.
قال الألوسي في "تفسيره": (والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها، ولوقوعها في مقابلة عبادته عز وجل، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله تعالى من الآلهة الباطل وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها فالتجوز في النسبة).
والصحيح هو الأول، لأن المشركين تعلقوا بمن يخاطبهم وبمن يرشدهم إلى ضوالهم، وهذا كله من الشيطان، فهم يعبدونه في الحقيقة وإن كانت عبادتهم في الأصل للملائكة أو الصالحين، وهذا غير العبادة الصريحة للشيطان من الكهنة والعرافين والسحرة وغيرهم، طمعاً في خدمة الشياطين لهم.

المبحث الخامس: الأصل في الآدميين:


والأصل في الآدميين التوحيد والشرك طارئ عليهم، فقد قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(20/106):(ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله لاتباعهم النبوة قال تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الإسلام فإن آدم أمرهم بما أمره الله به حيث قال له: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون").

الفصل الثالث:



أنواع الشرك:


والشرك أنواع كثيرة تقدمت الإشارة إلى هذه الأنواع إجمالاً وقد وعدنا بالتفصيل فيها، فالشرك - إذا نظرنا إلى المواضع التي يكون فيها - أنواع كثيرة وهي: الأول: الشرك في باب الربوبية، الثاني: الشرك في باب الألوهية، الثالث: الشرك في باب الأسماء والصفات.

المبحث الأول: الشرك في باب الربوبية:


وحقيقة هذا النوع من الشرك ترجع إلى جعل شريك لله تعالى في أفعاله كالخلق والرزق والضر والنفع والقبض والبسط والإحياء والإماتة والنصر على العدو وتفريج الكرب وشفاء المريض وهبة الولد وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها غير الله، وكلها ترجع إلى ثلاثة أمور: الخلق والملك والتدبير.

المبحث الثاني: الشرك في باب الألوهية:


وحقيقة هذا النوع من الشرك هي جعل شريك لله في حقـه وهي العبادة، والتي لا يستحقها إلا هو سبحانه وتعالى.
ولكي نفهم هذا النوع من الشرك ينبغي أيضاً أن نعرف حقيقة العبادة فلا يفهم أحد الشرك في "باب الألوهية" إلا بضبط العبادة، فالعبادة مفهومها واسع فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وقد تقدم هذا في "الحلقة الثالثة".

المبحث الثالث: الشرك في باب الأسماء والصفات:


وحقيقة هذا النوع من الشرك هي جعل شريك لله في أسمائه وصفاته التي لا تنبغي إلا له تعالى، كأن يوصف المخلوق بالواحد القهار أو بالكمال المطلق، أو بعلم الغيب، أو بالعلو على العرش، أو بأنه رب السموات والأرض أو بغير ذلك مما لا ينبغي إلا لله تعالى.


الفصل الرابع:



أقسـام الشـــرك:



تمهــــيد:


الشرك الذي حذر الله منه قد عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، فالشرك من أعظم الذنوب لما فيه من اتخاذ الند - وهو الشريك – مع الله عز وجل، وهذا التنديد إذا نظرنا إلى ما يخرج من الإسلام وما لا يخرج منه وجدناه نوعين:
أحدهما: تنديد أعظم وهو الشرك الأكبر،
والثاني: تنديد أصغر هو الشرك الأصغر.
قال ابن القيم في "الصلاة وحكم تاركها": (كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر).
قلت: وسنجعل لكل واحد منهما مبحثاً خاصاً به.

المبحث الأول: الشرك الأكبر:


والشرك الأكبر: وهو أن يجعل العبد شريكاً لله في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، فحقيقته اتخاذ الند مع الله تعالى وهو يخرج من الملة، ويخلد صاحبه في النار إذا مات ولم يتب منه، وله صور كثيرة منها: صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كدعاء غير الله أو التقرب إليه بالذبائح والنذور، أو أن يرجو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا اللّه من قضاء الحاجات وتفريج الكربات، ومن ذلك اعتقاد أن غير الله يضر أو ينفع بنفسه، أو أنه له شيء من القدرة على الخلق وإيجاد الشيء من العدم أو الرزق أو القدرة على التصرف في هذا الكون، أو أن يوصف أحد غير الله بأنه يعلم الغيب المطلق أو يوصف بالعلو المطلق، أو غير ذلك.
قال أبو البقاء الكفوي في "الكليات":
(والشرك أنواع: شرك الاستقلال: وهو إثبات إلهين مستقلين كشرك المجوس.
وشرك التبعيض: وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى.
وشرك التقريب: وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية
وشرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعا للغير، كشرك متأخري الجاهلية.<