قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

الذي يطلبُ بعلمِه الدنيا هذا لصّ وليس بعَالِم


العلامة محمد بن هادي المدخليّ - حفظه الله -:
فنحنُ مسافرونَ إلى الله، إلى دارِ الإقامةِ، قال تعالى"((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) فنحنُ مسافرونَ إلى دارِ الإقامةِ الحقيقية، إلى دارِ القرارِ، والسفر فيها يحتاجُ إلى زادٍ،والزاد هو؛الإيمانُ واليقين ،والإيمانُ واليقينُ لا يكونُ إلا بالعلم ،والدالّون عليهِ هم ُ العلماء، فشبههم النبيُّ – صلى اللهُ عليهِ وسلّم- بالأقمار، بالقمرِ ليلة البدر يستنيرُ بها السارون(1) السائرون في ظلمات الجهل يستنيرون بنور العلم ، كما أنّ الساري في ظلمات الدُجى يستنير بالقمر إذا كان في ليالٍ مقمرةٍ فإنّه أحسنُ ما يكونُ السفر،لأنّه يرى الطرق ،في النّهار الحر قدْ يستكنُ فيهِ، ولكن في الليل يسهلُ له السير، فيسيرُ إلى الله ،ويدلّه في هذه الطرقِ،يدلّه القمر وينيرُ له الطريق ، فالعلم وأهله؛العلم نور وأهلهُ هم بمنزلةِ القمر، فينبغي لهم أنْ يَترفعوا ، ولا يُدنسوا هذا العلم بالدنيا ، فالعَالِمُ الذي يُداخِل النّاسَ لأجلِ الدنيا هذا "لصٌّ" ليس بعَالِمٍ ، وأما الذي يداخِلهم لأجلِ إصلاحهم ،وصلاحهم وإرشادهم إلى الله وإلى الدّار الآخرة ، هذا هو"العَالِم"

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما(2)

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما------ رأوا رجلاً عن موقفِ الذلِّ أحجما

أرى الناسَ مَنْ داناهُمُ هان عندهم------ومَنْ لَزِمَتْهُ عزةُ النفسِ أكرِما

ولم أقضِ حَقَّ العلمِ إن كان كُلَّمَا------- بدا طَمَعٌ صَيَّرتُه لي سُلَّما

وما زلتُ مُنحازاً بعرضيَ جانباً--------- من الذلِّ أعتدُّ الصيانةَ مَغنما

إذا قيلَ هذا مَنهلٌ قلتُ قد أرى----- ---ولكنَّ نفسَ الحرِّ تَحتَملَ الظَّمَا

أُنزِّهها عن بَعضِ ما لا يشينُها------ --مخافةَ أقوال العدا فيم أو لما

فأصبحُ عن عيبِ اللئيمِ مسلَّما----- وقد رحتُ في نفسِ كريمٍ مُعَظَّما

ولكنه إن جاء عَفواً قبلتُه --------وإن مَالَ لم أُتبعهُ هَلاِّ وليتَما

وأقبضُ خَطوي عن حُظوظٍ كثيرة----- إذا لم أَنلها وافرض العرضِ مُكرما

وأكرمُ نفسي أن أُضاحكَ عابساً -------وأن أَتلقَّى بالمديح مُذمَّما

وكم طالبٍ رقي بنعماه لم يَصِل -------إليه وإن كَانَ الرَّئيسَ الُمعظَّما

وكم نعمة كانت على الُحرِّ نقمَةً------- وكم مغنمٍ يَعتَده الحرُّ مَغرَما

ولم أبتذل في خدمة العلمِ مُهجَتي------- لأَخدمَ من لاقيتُ لكن لأُخدما

أأشقى به غَرساً وأجنيه ذِلةً -------إذن فاتباعُ الجهلِ قد كان أَحزَما

ولو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُم------- ولو عَظَّمُوه في النفوسِ لَعُظِّما

ولكن أهانوه فهان ودَنَّسُوا -------- مُحَيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما

فإن قُلتَ جَدُّ العلم كابٍ فإنما --------كبا حين لم يحرس حماه وأُسلما

وما كلُّ برقٍ لاحَ لي يستفزُّني --------- ولا كلُّ من في الأرضِ أرضاه مُنَعَّما

فالعَالِم الذي يداخل النّاسَ يريدُ الدُنيا،يريدُ ما عندهم هذا؛ لصّ ، العَالِم هو كالقمر يُنيرُ للنّاس سيرهم إلى اللهِ ،ولا يلمسونه ،يبقى في صفاءِ القمرِ وفي ضوءِ القمر، وفي رفعةِ القمرِ ،وجمالِ القمرِ، ففي ضوءِ القمرِ نفعٌ ، وفي صفاءِ القمرِ تنزيهُهُ لنفسِهِ عنِ الدَنَسِ ،فهو مرتفع لا ينالُه أحدٌ ولا يدنسه ،وفي جمالِ القمرِ يظهرُ عليهِ أثرُ علمهِ ، العلمُ له بهاء ،له جمال، يظهر على صورة العَالِم، وذلكَ بسببِ صلاحِ الأعمالِ، وصلاحُ العلم إصلاح العمل ، فالواجب على العبد الداعِي إلى اللهِ – بعد أنْ يكونَ على بصيرةٍ – أنْ يكونَ مترفعًا [عن النقائص] وأنْ تكونَ نيته صالحة ؛ يريدُ نفع النّاسِ ، ولا يريدُ أنْ يأخذ مِنَ النّاسِ، لأنّ العلماءَ ورثة الأنبياء ، والأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ، ورثوا العلمَ (3) تبغي فضل العلم، خذْ العلمَ ،وتحبُ للنّاس أنْ يأخذوا العلمَ، وترغبهم في العِلمِ ، وتحرصهم عليه ،وتحببهُ إليهم ، وتفهمهُ لهم وتعرضهُ لهم بكلّ وسيلةٍ
ممكنةٍ ، تريدُ إصلاحَهم ، وتريدُ فلاحَهم وتريدُ نجاحَهم ، هذا حالُ العَالِم ، فإذا عَلِمَ وعمِلَ ودعا إلى اللهِ ؛فهذا هو الرابحُ،
ولذلك قال ابنُ القيّم -رحمه الله تعالى - :

والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه .......... أمران في التركيبِ متفقانِ
نصٌ مِنَ القرآنِ أو مِنْ سُنّةٍ ........ وطبيبُ ذاكَ العالم الرباني


فالعلماءُ الربانيّون هم ورثة الأنبياء ، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء ؛ هم أعرف النّاسِ بسُنّته،كما قال ابن حبان – رحمه الله تعالى - : مَنْ تعرى عن معرفةِ سنّةِ النبيّ – صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ – وأحاديثُ النبيّ – صلى اللهُ عليه وسَلّمَ – فهذا ليس وارثا للنبيّ – صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ – بِنصّ حديثِ الرسول –صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ – ((العلماء ورثةُ الأنبياء)) الأنبياءُ ماذا ورثوا؟ ورثوا العلم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ،العلمُ هذا هو الوحي، العلم :

العلمُ قاَل اللهُ، قال رسولُه ............قال الصحابةُ هم أولو العرْفانِ
ما العلمُ نصْبُكَ للخلاف سَفَاهة ...........بينَ الرسولِ وبين رأى فُلانِ
والعلمُ أقسامٌ ثلاثٌ(4) مالها......... مِنْ رابعٍ والحقُ ذو تبيانِ
.. علمٌ بأوصافِ الإلهِ وفعلهِ………وكذلكَ الأسماء للرحمنِ
والأمر والنهي الذي هو دينه........ وجزاؤه يوم المعاد الثاني

و
العلم قال الله قال رسولُه............قال الصحابةُ ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ........ بين الرسول وبين رأى فقيه
كلا ولا جحْد الصفات ونفيها...... ... حذرا من التمثيل والتشبيه

هذا هو العلم ، العلم هذا الوحي ، هذا هو الوحي قال تعالى : ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) يعني وجدكَ أيها النبيّ ، وجدكَ لا علم عندكَ ، ليس معنى ضالًا كما يقولُ بعضُ الفجرةِ والكذبة :وجدك ضالًا يعني على دينِ قومك ، لا ، فإنّ اللهُ قدْ حمى هذا الرسولَ منذُ أنْ كان نطفةً في رحمِ أُمِهِ ، وذلكَ بِتسلسلهِ – عليهِ الصلاةِ والسلام – مِن نكاحٍ صحيحٍ لا سفاح فيه حتى خرجَ ، ثم حماه مِنْ طفولتِهِ إلى أنْ أُوحِي إليهِ –صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ – وجدكَ ضالًا يغني : لا علمَ عندكَ ، كما قال اللهُ- عزّ وجلّ _ فالقرآن يفسرُ بعضُ بعضًا - : ((وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً))، ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) .

شريط مفرغ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
جاء في الحديث ((إن مثل العلماء في الأرض، كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر و البحر، فإذا انطمست النجوم، أوشك أن تضل الهداة)) حسنه السيوطي، وضعفه الإمام الألباني.
وجاء في مصنف ابن أبي شيبة كتاب الزهد فِي كَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ"حَدِيثُ أَبِي قِلَابَةَ"
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ كَاتِبِ أَبِي قِلَابَةَ ، قَالَ : " مَثَلُ الْعُلَمَاءِ مَثَلُ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا , وَالْأَعْلَامِ الَّتِي يُقْتَدَى بِهَا , إِذَا تَغَيَّبَتْ عَنْهُمْ تَحَيَّرُوا , وَإِذَا تَرَكُوهَا ضَلُّوا)وهو مقطوع.
[ له معنًى صحيحٌ يفيده "أنّ العلماءَ الحقَّ هم مِمَن هيأهم اللهُ لهدايةِ النّاسِ ؛هداية الدلالة ، قال تعالى ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))وقال سبحانه ((وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ))].
(2)في البداية والنهاية تُرجِم له بــ"أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر:علي بن عبد العزيز القاضي بالري"، سمع الحديث وترقى في العلوم حتى أقر له الناس بالتفرد، وله أشعار حسان من ذلك قوله:(يقولون لي فيك انقباض وإنما)
(3) - جاء في الحديث إنّ أبا الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من سَلَكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سلك الله به طَريقًا من طُرُق الجنَّة، وإن الملائكةَ لتضَعُ أجنحَتَها رِضًا لطالبِ العلم، وإن العالمَ ليستغفِرُ له مَن في السَّماوات والأرض، والحيتانُ في جَوف الماء، وإن فضلَ العالم على العابد كفضل القمر ليلةَ البدر على سائرِ الكواكب. وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا، ولا درهمًا، ورَّثوا العلم، فمَن أخذَهُ أخذ بحظٍّ وافر))صححه الإمام الألباني.
(4) إذا تأخر العدد عن المعدود جاز فيه التذكير والتأنيث.