قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

باب: ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
روى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1 .
ولابن جرير2 بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} 3 قال: كان يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره.
وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج 4 .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"5 رواه أهل السنن 6

فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.

الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: - وهي من أهمها- صفة معرفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنه زوارات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.
[التعليق:]
باب:
  ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ؟
باب: ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
ما ذكر المصنف في البابين يتضح بذكر تفصيل القول فيما يفعل عند قبور الصالحين وغيرهم.
وذلك أن ما يفعل عندها نوعان: مشروع وممنوع.
أما المشروع فهو ما شرعه الشارع من زيارة القبور على الوجه الشرعي من غير شد رحل، يزورها المسلم متبعا للسنة فيدعو لأهلها عموما، ولأقاربه ومعارفه خصوصا، فيكون محسنا إليهم بالدعاء لهم وطلب العفو والمغفرة والرحمة لهم، ومحسنا إلى نفسه باتباع السنة وتذكر الآخرة والاعتبار بها والاتعاظ.
أما الممنوع فإنه نوعان:
أحدهما: محرم ووسيلة للشرك كالتمسح بها والتوسل إلى الله بأهلها، والصلاة عندها، وكإسراجها والبناء عليها، والغلو فيها وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة.
والنوع الثاني: شرك أكبر كدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم، وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، فهذا شرك أكبر، وهو عين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم.
ولا فرق في هذا بين أن يعتقد الفاعل لذلك أنهم مستقلون في تحصيل مطالبه، أو متوسطون إلى الله، فإن المشركين يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}7. {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه}8 .
فمن زعم أنه لا يكفر من دعا أهل القبور حتى يعتقد أنهم مستقلون بالنفع ودفع الضرر، وأن من اعتقد أن الله هو الفاعل وأنهم وسائط بين الله وبين من دعاهم واستغاث بهم [لم] يكفر.
من زعم ذلك فقد كذب ما جاء به الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة من أن من دعا غير الله فهو مشرك كافر في الحالين المذكورين، سواء اعتقدهم مستقلين أو متوسطين. وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
فعليك بهذا التفصيل الذي يحصل به الفرقان في هذا الباب المهم الذي حصل به من الاضطراب والفتنة ما حصل، ولم ينج من فتنته إلا من عرف الحق واتبعه.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 1 (الموطأ- مع تنوير الحوالك) 1 / 185- 186 (جامع الصلاة) مرسلا.
 2 (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) 27 / 35.
 3 سورة النجم آية : 19.
 4 رواه البخاري: كتاب التفسير باب (أفرأيتم اللات والعزى) (4 / 1841) حديث رقم (4578).
 5 الترمذي : الصلاة (320) , والنسائي : الجنائز (2043) , وأبو داود : الجنائز (3236) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).
 6 رواه أبو داود (السنن) 3 / 558 (كتاب الجنائز) (باب في زيارة النساء القبور) حديث رقم (3236). والترمذي (السنن) 2 / 136- 137 (كتاب الصلاة) (باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا). حديث رقم (320). وقال: (حديث حسن). اهـ. وتعقبه المنذري في (مختصر سنن أبي داود) 4 / 349 بقوله: (وفيما قاله نظر). ثم حكى أقوال الأئمة في تضعيف أبي صالح باذام- ويقال باذان- مولى أم هانئ بنت أبي طالب. وقال ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 / 93 في ترجمته: (ضعيف مدلس). والحديث رواه- أيضا- النسائي (السنن) 4 / 94- 95 (كتاب الجنائز) (باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور). وابن ماجه (السنن) 1 / 502 (كتاب الجنائز) (باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور) حديث 1575 دون قوله: (والمتخذين...) من طريق باذام. وقال الألباني: (قد جاء غالب الحديث من طرق أخرى: فلعن زائرات القبور رواه ابن ماجه. ولعن المتخذين على القبور المساجد متواتر عنه (). (سلسلة الأحاديث الضعيفة) 1 / 259 حديث رقم 225.
  7 سورة الزمر آية : 3.
  8 سورة يونس آية : 18.

 

القول السديد في مقاصد التوحيد

العلامة السعدي رحمه الله