*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
مَعَالِمُ فِي التَّوْحِيد. لفضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: هذا لقاء لموضوع عظيم للغاية وكبير جداً وكل واحدٍ منا محتاج إليه تذكرةً وتبصرة، ولهذا لنصبر محتسبين صبرنا عند الله تبارك وتعالى بالوقوف على جوانب هذا الموضوع من باب المذاكرة والمدارسة لأعظم أمرٍ على الإطلاق ألا وهو: توحيد الله جل وعلا، وموضوع هذا اللقاء عنوانه « معالم في التوحيد »، وسأتحدث أيها الإخوة حول هذا الموضوع وفي معالم التوحيد عن نقاط ستة وهي:
فهذه ستة نقاط سيدور حولها الحديث بإذن الله تبارك وتعالى في لقاءنا هذا، وكل نقطة من هذه النقاط تحتاج إلى بسط وسعة في البيان لكنني سأجتزئ في هذه النقاط من الكلام ما يحقق المقصود بإذن الله تبارك وتعالى، ونبدأ مستعينين بالله مستمدِّين العون والتوفيق منه تبارك وتعالى في نقاط موضوعنا هذا.
ª النقطة الأولى: خصائص التوحيد وفضائله.
أيها الإخوة الكرام: التوحيد له خصائص كثيرة جداً وفضائل عديدة تدل على مكانته العليا ومنزلته الرفيعة وسأشير هنا إلى عشر خصائص للتوحيد:
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثانية وهي حد التوحيد وحقيقته؛ ما هو التوحيد وما حقيقته؟
التوحيد: مصدر للفعل وحَّد يوحِّد توحيداً، وهو أصلٌ يدل على الإفراد. وتوحيد الله إفراده سبحانه وتعالى ونفي الشريك عنه في حقوقه جل وعلا وخصائصه، لا شريك له في شيء من خصائصه ولا في شيء من حقوقه سبحانه وتعالى على عباده. فالربوبية التصرف في هذا الكون خلقاً ورَزقاً وإحياءً وإماتةً وتدبيراً هذا من خصائص الله، أسماؤه الحسنى وصفاته العليا ومشيئته النافذة وقدراته الشاملة وعلمه الواسع وكماله جل وعلا في أسمائه وصفاته هذا من خصائص الله، فمن أعطى أحداً من المخلوقات شيء من خصائص الله نقض بهذا توحيده. وحقوق الله سبحانه وتعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كما في حديث معاذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )) فالعبادة حق لله سبحانه وتعالى فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله نقض بذلك توحيده، فالتوحيد هو إفراد الله جل وعلا بحقوقه وخصائصه، والشرك هو تسوية غير الله بالله في شيء من حقوقه أو خصائصه، فهذه حقيقة التوحيد: أن نفرد الله جل وعلا وأن لا نجعل معه شريكاً {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء:23]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ فهذا هو التوحيد وهذه هي حقيقته. وإذا تأملت ذلك تبين لك أن التوحيد في ضوء ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقسامٌ ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية.
وهذه الأقسام الثلاثة للتوحيد لكل واحدٍ منها ضد؛ فتوحيد الربوبية ضده جحد خصائص الله في ربوبيته أو إعطاء شيء من خصائص الله تبارك وتعالى في ربوبيته لغيره سبحانه وتعالى. وتوحيد الأسماء والصفات ينتقض بتعطيل أسماء الله وصفاته وجحدها أو بتشبيه الله تعالى بخلقه تعالى الله عما يقولون، قال جل وعلا: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-182]. فهذه حقيقة التوحيد وهذا حدُّه.
ª الأمر الثالث من معالم التوحيد: حول تحقيق التوحيد وتكميله.
وتحقيق التوحيد هذه درجة عليا ومنزلة منيفة وشريفة، ذكر عليه الصلاة والسلام أنَّ أهلها يدخلون الجنة يوم القيامة بدون حساب ولا عذاب، في الحديث المشهور حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام (( وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب )) ثم ذكرهم قال (( هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون )) فهذه درجة عالية في التوحيد وهي تحقيق التوحيد وتكميله.
وتحقيق التوحيد المراد به: تتميم التوحيد وتكميله وتصفيته وتنقيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي؛ هذا تحقيق التوحيد: أن يجتهد العبد في تكميل التوحيد وتتميمه وأن يجتهد في تصفيته وتنقيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، وهذه الأمور الثلاثة يسمِّيها أهل العلم العوائق التي تعوق السائر في سيره إلى الله والدار والآخرة: عائق الشرك وعائق البدعة وعائق المعصية؛ أما عائق الشرك فالخلاص منه بإخلاص التوحيد لله، وأما عائق البدعة فالخلاص منه بلزوم السنة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والسير على منهاجه، وأما عائق المعصية فبالبعد منها والحذر من الوقوع فيها والتوبة النصوح إلى الله سبحانه وتعالى إذا وقع في شيء من الذنوب والمعاصي. فإذا كان العبد بهذه الرتبة فإنه بلغ تحقيق التوحيد.
وتحقيق التوحيد أيضا على رتبتين، وكل من أهل الرتبتين يدخلون الجنة يوم القيامة بدون حساب ولا عذاب:
فهؤلاء المحققون للتوحيد بقسميهم المقتصدين والسابقين بالخيرات كلهم يدخل الجنة يوم القيامة بدون حساب ولا عذاب، وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:32-33] أي: يدخل جنات عدن الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات. أما المقتصد والسابق بالخيرات فإن دخولهما إلى الجنة دخولاً أولياً بدون حساب، وأما الظالم لنفسه وهنا أقف وأسألكم ما المراد بظلم النفس هنا؟ هل هو المراد بالآية المتقدمة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ }؟ هل المراد بالظلم هنا في قوله { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي بالشرك؟ لا؛ لأن الله قال في الآية التي تليها { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} والمشرك الجنة عليه حرام {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] الجنة حرام عليهم، إذاً ما المراد بقوله{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ }؟ أي ظلمها بالذنوب التي دون الشرك، وقع في كبائر ومعاصي وآثام دون الشرك، فمن جاء يوم القيامة بذنوب ومعاصي وآثام دون الشرك أيضاً هو يدخل الجنة، لكن هل يدخلها دخولاً أولياً بدون حساب ولا عذاب كالمقتصد والسابق بالخيرات؟ كلا، فهو عُرْضة للعذاب وعرضة للعقاب والحساب.
فإذاً قوله { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ }المراد بالظلم للنفس هنا: أي بالمعاصي التي دون الشرك، ولهذا إذا مضيت في قراءة هذه الآيات تجد بعدها بقليل يقول الله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) }؛ قوله هنا { فَمَا لِلظَّالِمِينَ} تختلف عن قوله { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ }؛ هناك { ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي: بالمعصية والذنب الذي دون الشرك، وقوله هنا { فَمَا لِلظَّالِمِينَ } أي للمشركين، المراد بالظلم هنا الشرك والكفر بالله {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]. إذاً تحقيق التوحيد وتكميله على رتبتين: رتبة المقتصد ورتبة السابق بالخيرات.
ª ننتقل إلى النقطة الرابعة وهي: نواقض التوحيد ونواقصه.
التوحيد له نواقض وله نواقص؛ ونواقض التوحيد هي التي تحبط الدين وتبطل الدين كله وهي الكفر بالله والشرك والنفاق الخالص، الكفر بأنواعه والشرك بأنواعه والنفاق الأكبر بأنواعه هذه كلها نواقض للتوحيد تنقض التوحيد من أصله وتهدمه من أساسه، فالشرك الأكبر بأنواعه والكفر الأكبر بأنواعه والنفاق الأكبر بأنواعه كلها ناقضة للتوحيد وهادمة له من الأساس، قال الله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] وقال تعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة:5] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65]. فالتوحيد ينتقض وينهدم ويبطل بالشرك الأكبر بأنواعه والنفاق الأكبر بأنواعه والكفر الأكبر بأنواعه. وهذه الجملة يطول الحديث في الكلام عليها وذكر تفاصيلها.
وأما نواقص التوحيد فهي الأمور التي تُنقص التوحيد ولا تبطِله ولا تهدمه من الأساس ومن ذلكم الكفر الأصغر، ومن ذلكم النفاق العملي مثل ((إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ هذه نواقص للتوحيد إذا وجدت في العبد نقص توحيده ونقص إيمانه، وكذلك الشرك الأصغر والألفاظ الشركية التي لا يقصد الإنسان حقيقتها وإنما تقع على لسانه هذه تُنقص توحيده، أما إذا اعتقد حقيقتها كانت من الشرك الأكبر الناقض للتوحيد.
الخلاصة: أن التوحيد له نواقض تنقضه من الأساس وتهدمه من الأساس، وهناك نواقص تُضعف التوحيد. والمعاصي والبدع أيضاً تُضعف التوحيد وتُضعف الإيمان ولهذا ينبغي على المؤمن أن يكون على رعايةٍ لتوحيده وعناية به من كل ناقضٍ وكل ناقص لتوحيده.
ª الأمر الخامس: مصدر التوحيد ومنبعه.
التوحيد دينٌ صحيح وإيمانٌ قويم وعقيدةٌ مباركة مستمدةٌ من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. التوحيد هو الدين الوحيد والإيمان الوحيد والعقيدة الوحيدة التي نزلت من السماء، وكلُّ ما عند الناس من عقائد مغايرة للتوحيد ومنافية له فهي عقائد نابتة في الأرض اخترعها الناس وأحدثوها وأوجدوها. فالتوحيد هو العقيدة الوحيدة التي نزلت من السماء بوحي الله وهو دين الله الذي رضيه لعباده قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران:85]، وقال تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة:130]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] فالتوحيد هو وحي من الله منزل على عباده وهو دين الله الذي خلق الخلق لأجله وأوجدهم لتحقيقه، ولهذا مر معنا {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ } [النحل:36]، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } [النحل:1-2]. بالتوحيد يبعثون ويُرسلون به فهو وحي من الله سبحانه وتعالى. أما العقائد الموجودة في الناس المخالفة للتوحيد والمناقضة له فهي عقائد نبتت في الأرض واختُرعت وأوجدها الناس، ولهذا كان من طريقة الأنبياء في إبطال العقائد التي بين الناس من شرك وكفر ونفاق وغير ذلك من أنواع الضلال بيان أنه لم ينزل، قد مر معنا قول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } [يوسف:39-40]، وفي سورة النجم قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }.
فإذاً التوحيد مصدره ومنبعه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أُخِذ التوحيد من هذا المورد العذب ومن هذا المنهل الصافي كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. والعقائد التي عند الناس من أين جاءوا بها؟ ما مصدرها؟ إما العقل بعقله أو بوحي ولكن ممن؟ {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] وحي من الشيطان، كما جاء أحد السلف إلى ابن عباس رضي الله عنه قال له: إن مسيلمة زعم الليلة أنه نزل عليه وحي !! قال ابن عباس رضي الله عنهما: "صَدَق" فارتاب الرجل كيف صدق؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}، فالشيطان يوحي إلى أهل الضلال بأفكار بعقائد بأمور بوساوس بخطرات ثم يبدأ يدعو الناس إليها بهذا الوحي الذي نزل عليه من الشيطان {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221-222]، الشيطان يتنزل ويوهم من يتنزل عليه أنه يوحي إليه.
فتأتي مثل هذه العقائد إما بوحي من الشيطان، أو بإعمال الإنسان والعياذ بالله فكره المجرد وعقله القاصر ويبدأ يخترع، أو بأشياء يتوصل إليها الإنسان بذوقه الفاسد. ولهذا بعض الناس تأتي عنده أعمال وعبادات وطقوس يقول في الاستدلال لها: جربنا أو جرب مشايخنا. من قال أن الدين والاعتقاد يؤخذ بالتجارب أو من مصادره التجارب؟ وبعضهم يأخذها من المنامات؛ يأتي بعقيدة أو بفكرة يقول رأيت في المنام ويبني عليها ديناً أو عقيدة وهكذا دواليك من المصادر التي يأخذ منها الناس عقائد ما أنزل الله تبارك وتعالى بها من سلطان.
إذاً هذه العقيدة عقيدة التوحيد التي هي دين الله سبحانه وتعالى الذي لا يقبل الله دينا سواه هي عقيدة مستمدة من موردٍ عذبٍ ومنهلٍ صافي، ومن نهل من المورد الأول ومن المنهل العذب وجد بقية المنابع كدرة وملوثة، لكن متى يعرف الإنسان أن بقية هذه المنابع أو المصادر ملوثة إلا إذا عرف المنبع الصافي، إلا إذا عرف المنبع النقي الذي هو وحي الله سبحانه وتعالى وتنزيله. ولهذا كثير من المشركين بعد هدايتهم ودخولهم في التوحيد تبين لهم أنهم كانوا قوماً لا يعقلون، بينما أنهم في وقت ضلالهم وشركهم وباطلهم يظنون أن هذا هو العقل الصحيح لكن لما عرفوا التوحيد الصحيح والدين الصحيح وهداهم الله إليه تبين لهم أنهم كانوا قوما لا يعقلون.
ولهذا كان بعض الصحابة أحيانا يجلسون يذكرون من أخبارهم الغريبة عندما كانوا على الشرك ويحمدون الله الذي هداهم إلى الإسلام والتوحيد؛ يذكر بعضهم أنهم أيام الشرك كانوا في سفر جماعة وكانوا دائماً في أسفارهم يحملون الأصنام التي يعبدونهما معهم إذا وقفوا في مكان اتجهوا إليها بالعبادة، يقول كنا في سفر فبينما نحن جلوس إذا بمنادٍ ينادي قال: " يا قوم ابحثوا عن ربكم فإنا قد فقدناه " الحجر الذي معهم الذي يعبدونه ضاع فُقِد، يقول فتفرقنا في الأودية نبحث عن الرب المفقود كل واحد في جهة، يقول فبينما نحن نبحث إذا بمنادٍ ينادي " يا قوم إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه": وجدوا حجر آخر مثل ذاك الحجر أو مقارب له فجاءوا به واتجهوا إليه يعبدونه ويرجونه ويصرفون له الدعاء والرجاء، أين عقول هؤلاء؟! هم في وقت هذا العمل وهذه الممارسة يقولون عن أنبياء وعن رسله أنهم مجانين ويعدُّون أنفسهم أنهم هم العقلاء، لكن إذا أنار الله البصائر بالتوحيد والإيمان وهدى الله عز وجل القلوب لهذا الإسلام تبين للإنسان أن تلك المصادر ملوثة مشوبة بكل باطل وضلال.
ª الأمر الأخير من معالم التوحيد: هو ثمار التوحيد وفوائده.
والتوحيد له ثمار لا حصى وفوائد لا تعدُّ ولا تستقصى، وانظر الإشارة إلى ذلك في قوله تبارك وتعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [إبراهيم:24-25] أي ثمارها وفوائدها.
ففوائد التوحيد وثمار التوحيد على العبد في دنياه وأخراه لا حد لها ولا حصر، بل نقول قولاً كليًّا: إنَّ كل خير يناله العبد في الدنيا والآخرة وكل شر ينجو منه العبد في الدنيا والآخرة هو من ثمار التوحيد وأثر من آثار التوحيد. وإذا دخلنا في شيء من التفاصيل في ثمار التوحيد وآثاره فإنَّ من أعظم ثمار التوحيد وآثاره أنه يصحِّح الأعمال ويزكيها؛ إذ الأعمال أيًّا كانت ومهما كانت لا تصح من العامل ولا تُقبل منه إلا بالتوحيد، فهو للأعمال كالأساس للبنيان وكالأصول للأشجار، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وقال جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] فالتوحيد هو الذي يصحِّح الأعمال ويزكيها، ولو كان عند الإنسان من الأعمال الشيء الكثير والعدد الوفير فإنها لا تُقبل منه إلا إذا كانت قائمةً على التوحيد ولا تصح منه إلا إذا كانت قائمة على التوحيد، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } [التوبة:54]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة:5]، وقال {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65] فالتوحيد يصحح الأعمال بل لا تصح إلا به.
والتوحيد سبب الفلاح والرفعة في الدنيا والآخرة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]؛ فأهل التوحيد هم أهل الاهتداء، وأهل التوحيد هم أهل الفلاح، والفلاح هي أعظم كلمةٍ قيلت في حيازة الخير، فالمفلح هو من حاز خير الدنيا والآخرة، ولا يُحاز الخير ولا يُظفر به في الدنيا والآخرة إلا بالتوحيد لله وإخلاص الدين له سبحانه وتعالى.
ومن ثمار التوحيد: أنه سببٌ للفوز بكرامة الله وجنَّته وسببٌ للنجاة من عذاب الله وسخطه، فمن لقي الله سبحانه وتعالى موحداً دخل الجنة، ومن لقي الله والعياذ بالله مشركاً دخل النار وخُلِّد فيها أبد الآباد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48]، فالتوحيد من آثاره وثماره الفوز بالجنة والنجاة من النار.
النجاة من النار للموحد كيف تكون؟ هل هي نجاةٌ من الدخول أو نجاة من الخلود في النار؟ جواب هذا مضى؛ إن كان الموحد محققاً توحيده التحقيق الواجب أو التحقيق المستحب فهذه نجاةٌ من الدخول، ينجو من دخول النار. أما إذا كان موحداً لكنه ارتكب معاصي وآثام دون الشرك فالنجاة هنا من النار نجاةٌ من الخلود لأنه لا يخلد في النار إلا المشرك، ولهذا جاء في الحديث القدسي (( أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان )) ولهذا التوحيد نجاةٌ من النار، فإن كان التوحيد محققاً فهي نجاة من الدخول، وإن كان ليس عن تحقيق فهو نجاة من الخلود في النار.
وثمار التوحيد لا حدَّ لها ولا عد، وهذه كلمات قليلات ومعالم حول هذا الموضوع العظيم، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا جميعاً بما علَّمنا، وأن يجعل ما سمعناه حجةً لنا لا علينا، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل.
والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.