قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

خَصَائِصُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ (3) الشيخ صالح آل الشيخ

القسم الثالث : منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الصحابة رضوان الله عليهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد :

القسم الثالث من خصائص أهل السنة والجماعة هو ما يتعلق بالمنهج الذي سلكوه تجاه الصحابة رضوان الله عليهم ، أو في الجهاد أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو نحو ولاة الأمر وما شابه هذه المسائل ؛ وذلك لأن الأمة افترقت في هذ المسائل . فبداية الفُرْقة كانت بالخروج على عثمان رضي الله عنه ، ثم تكفير بعض الصحابة , وتولي بعضهم والتبرؤ من البعض كما عند الخوارج والناصبة والرافضة . ثم جاء الضلال في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما عند المعتزلة في وقت متأخر وهكذا .

أما أهل السنة والجماعة فقد أكرمهم الله – جل وعلا – بالنجاة والنصر ؛ لأنهم يسلكون في ذلك ، وفي مثل هذه الفتن والمحن ما دلت عليه النصوص ولا يفرِّقون في ذلك بين نص ونص , أو يُخرِجون النصوص عن ظاهرها , فأهل السنة والجماعة , والطائفة المنصورة والفرقة الناجية في مسألة الصحابة يتولون جميع الصحابة بلا استثناء ,كل صحابي فإننا نحبه ونجله . ونقول بما جاء عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – في الأثر : « لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً »([14]) .

كما قال عليه الصلاة والسلام « لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلَا نَصِيفَهُ »([15]) يعني ولا نصف المد . ويقول الله جل وعلا : ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح : 29] إلى أن قال في آخر الآية ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح : 29] ، وقال جل وعلا ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح : 18] . وقال جل وعلا أيضًا : ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[الحشر : 10] .

فمن خصائص أهل السنة والجماعة محبتهم لجميع الصحابة ، وأنهم يتولون الجميع ، ولا ينتقصون صحابيًا من الصحابة مهما كان مطلقًا . وأفعال الصحابة – رضوان الله عليهم – فيما اجتهدوا فيه فمن كان منهم مصيبًا فله أجران ، ومن كان مخطئًا واجتهد رغبة في الأجر و تحريًا للحق فله أجر واحد .

وهكذا كان الأمر في الخلاف ما بين على – رضي الله عنه – ومعاوية – رضي الله عنه – فإن أهل السنة والجماعة يرون هنا أن عليًا – رضي الله عنه – هو المصيب وهو الأولى بالحق وهو الذي كان يجب على الناس إذ ذاك الالتزام به والاجتماع حوله ، ومعاوية – رضي الله عنه – كان مجتهدًا فله أجر واحد على اجتهاده .

ويرتب أهل السنة والجماعة الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة ، أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم على ، ولا يتنقصون أحدًا من الصحابة البتة . كذلك منهجهم مع أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، وأخصهن خديجة رضي الله عنها ، وعائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق . فإن أهل السنة والجماعة يتولون جميع أمهات المؤمنين ، ولا يذُمُّون امرأة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، بل يشهدون أنهن زوجاته – صلى الله عليه وسلم – في الآخرة كما كن زوجاته في الدنيا عليه الصلاة والسلام ، كما قال – جل وعلا – في وصفهم : ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب : 6] فهن أمهات المؤمنين ، وللأم على أبنائها أيما حق ، صحيح أنها ليست أُمًّا في المحرمية فليس الصحابي محرما لها ، ولكنها أم في الحق والاحترام وفي تحريم النكاح كما هو معلوم .

أما أهل البدع فتجد الخوارج يكفرون بعض الصحابة . بل ولم يقف الأمر بهم عند قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقتلوا عليًّا رضي الله عنه . أي إن الخوارج قتلوا أفضل رجلين في زمانهما عثمان وعلى ، قتلوهما تقرُّبًا إلى الله جل وعلا . فهل بعد هذا الضلال من ضلال!

يأتي عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليًا ، وكان متعبِّدًا من الخوارج الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم – بقوله : « يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ »([16])يأتي ابن ملجم هذا فلا تعجبه تصرفات على – رضي الله عنه – فسعى واتفق الخوارج على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص . فنجح ابن ملجم في قتل علي . فلما أمسكوا ابن ملجم وأرادوا أن يقطعوا رأسه قال : إني سائلكم ألا تقطعوا رأسي مرة واحدة ، بل اقطعوا أطرافي شيئًا فشيئًا حتى ألتذ بتعذيب بدني في سبيل الله .

هل يوجد في الدنيا من يرغب في رضا الله جل وعلا أكثر من ذلك . ولكن هل رضي الله عنهم بما فعلوا؟ لا ، بل سخط عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة ، وسماهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – كلاب أهل النار ، كما قال عليه الصلاة والسلام فيهم : « فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ في قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »([17]) هذا مع عظم عبادتهم وقراءتهم وخشوعهم الظاهر .

 وانظر إلى فَرْط ضلالهم وغَيِّهم فقد أتى خارجي آخر وهو عمران بن حطان شاعر الخوارج ولسانهم يمدح ابن ملجم على قتله عليًّا – رضي الله عنه – قائلا :

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا        إِلاَّ لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا

    إِنِّي لأَذْكُـرُهُ حِينًا فَأَحْسَبَهُ        أَوْفَى الْبَرِّيِّةِ عِنْـدَ اللَّهِ مِيـزَانَا([18])

يقول إن ابن ملجم أوفى البرية عند الله ميزانًا لأنه قتل عليًّا رضي الله عنه . هذا ضلال مبين مع كثرة العبادة ومع كثرة الصلاح الظاهر الزائف ، وهم مع ذلك كلاب أهل النار ؛ لأنهم لم يلتزموا نهج الصحابة رضوان الله عليهم . فالطريقة الأولى والجماعة هي الفرقة الناجية ومن عداهم لا شك أنه متوعَّد بالنار وهو من أهل الضلال .

موقف أهل السنة من العلماء :

أما موقف أهل السنة من العلماء ، ونذكره هنا لصلته بموقفهم من الصحابة ، فإن طريقة أهل السنة والجماعة ألاَّ يذمُّوا أحدًا من أهل العلم إذا أخطأ في مسألة ما دام متمسكًا بما دل عليه الدليل ، فإذا أخطأ أحدهم في مسألة أو مسألتين أو اجتهد فأخطأ فإنهم لا يتبعونه فيما أخطأ فيه ، ولكنهم لا يذمونه لأنهم يعلمون أنه مجتهدٌ ، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء .

فمن منهجهم سلامة ألسنتهم من الوقوع في أهل العلم ، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وهم الذين يدلون الناس على الشريعة . فإذا قُذِف العلماءُ أو طُعِن في أهل العلم ؛ لأن فلانًا لم يصب في قوله ، أو لأن فلانًا لم يُحسن في فعله ، فإن الطعن والقذف إنما ينال في الشريعة ويقع في الإسلام نفسه .

وأفْرحُ ما يفرح به الشيطان وأولياؤه أن يُطعن في الذين يُرشدون الناس إلى الشريعة وهم العلماء ، لأن الناس حينئذ يختلون فلا يبقى لهم من يرشدهم أو لا يبقى لهم من يثقون به ، فيسيرون وَفْق أهوائهم فيَضِلُّون ويُضِلُّون . لهذا سلامة اللسان من الوقيعة في أهل العلم سمة وخصيصة من خصائص الطائفة المنصورة والفرقة الناجية .

موقف أهل السنة من ولاة الأمر :

ومن صفاتهم أهل السنة وخصائصهم في هذا المقام المتعلق بالمنهج أنهم يتولون ولاة الأمر الذين ولاهم الله جل وعلا – أمرَهم ، ويدعون لهم بالصلاح والمعافاة ، ويُعينونهم على الخير ولا يعينونهم على الشر ؛ لأن الله – جل وعلا – أمر بذلك في كتابه فقال : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء : 59] ، وقال جل وعلا : ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء : 83] .

وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بطاعة ولاة الأمر : « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا » ([19]) . وقال – صلى الله عليه وسلم – أيضا : « مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ أَطَاعَ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ عَصَى الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي »([20]) .

وأهل السنة يطيعون ولاة الأمر في غير المعصية . أما في المعصية فـ « لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ »([21])كما قال صلى الله عليه وسلم . وقولهم في غير معصية ، يشمل مسألتين :

المسألة الأولى : أنهم يطيعونهم فيما فيه طاعة لله جل وعلا ، يعني إذا أمروا بالصلاة فإننا نطيعهم طاعة لله جل وعلا ثم طاعة لولي الأمر ، إذا أمروا بأداء الزكاة فلا يهرب المسلم من ذلك ، بل يُطيع الله جل وعلا – ثم يُطيع ولي الأمر ، إذا أمروا بالجهاد فإن الجهاد مع كل بر وفاجر من ولاة الأمور ، وهكذا .

المسألة الثانية : فإنهم يطاعون فيما هو من موارد الاجتهاد ، أي إذا كانت المسألة اجتهادية اختلف فيها أهل العلم ، أو أن يكون ولي الأمر اجتهد في أمر فيه مصلحة للدين ومصلحة للمسلمين ، فإنه يُطاع ولو لم يكن هناك اتفاق على أن هذا فيه مصلحة ، بل يُطَاع في المسائل الاجتهادية . وهذا ما يتعلق بالمصالح المرسلة .

أما ما فيه نص فتجب مخالفته لأن هذا يكون معصية لله تعالى و« لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ »([22]) كما بيَّن صلى الله عليه وسلم . وهذه هي التي بينها عليه الصلاة والسلام في قوله « إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ »([23]) أيفيما عُرِفت الطاعة فيه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

أما الخوارج فقد خالفوا في طاعة ولاة الأمور فخرجوا على عثمان ، ويقول شيخ الإسلام ابن تميمة لما رد على الشيعة في كتابه “منهاج أهل السنة” أنه ما من أحد خرج على ولي الأمر إلا وله تشبث ببعض التأويل الذي يظن أنه له فيه حقًّا ، فقال ابن تيمية : “وَكَثِيرٌ مِمَّنْ خَرَجَ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُنَازِعَهُمْ مَعَ اسْتِئْثَارِهِمْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الِاسْتِئْثَارِ . ثُمَّ إِنَّهُ يَكُونُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ذُنُوبٌ أُخْرَى ، فَيَبْقَى بُغْضُهُ لِاسْتِئْثَارِهِ يُعَظِّمُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ ، وَيَبْقَى الْمُقَاتِلُ لَهُ ظَانًّا أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا حَرَّكَهُ عَلَيْهِ طَلَبُ غَرَضِهِ : إِمَّا وِلَايَةٌ ، وَإِمَّا مَالٌ”([24]) .

وذلك لأنه لا يُمكن ألا يكون على ولي الأمر ملاحظات ومسائل يمكن تأويلها وتهويلها على الحاكم فليس في الحكَّام من هو كامل لا نقص فيه . وإنما يخرج الذين يخرجون على ولي الأمر لأجل مخالفة أو مخالفات رأوها فضخموها ورجوها حتى يقلبوا الناس على الحكام .

 وهكذا كان الذين خرجوا على عثمان – رضي الله عنه – الخليفة الراشد فإنهم تشبثوا بمسائل أخذوها عليه في تصرفه في بعض الأموال وفي تعيينه لبعض قرابته ، وأرادوا الحق ظاهرًا والمال والباطل باطنًا ، أي إن المسائل اختلطت في الرغبة في الدنيا والرغبة في الآخرة فنقدوا وخرجوا ولم يطيعوا لأجل دخول هذه في هذه ، والله – جل وعلا – حسيب كل عبد على نفسه .

موقف أهل السنة من الخلق في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد :

والسمة قبل الأخيرة في منهج أهل السنة والجماعة هي التعامل مع الخلق في الدعوة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الجهاد في سبيل الله جل وعلا . فإن الطائفة المنصورة وُصِفت بأنها منصورة وبأنها ظاهرة على الحق ، والظهور هنا كما قال العلماء هو ظهور باللسان والبيان في كل زمان وأوان لأن الله – جل وعلا – معهم ، ومعهم القرآن الذي جعله الله – جل وعلا – مهيمنًا على ما عداه . فظهورهم على كل أحد لا بد منه لأن حجتهم أقوى ولأن برهانهم أقوى ، فهم يقولون بالقرآن والسنَّة ، فما دلُّوا عليه هو الحق والهُدى . فهذا ظهور اللسان والبيان .

والقسم الثاني يكون أحيانًا ، وهو ظهور السيف والسنان ، أي أن يتغلبوا على غيرهم ، وأن يظهروا على غيرهم ظهور سيف وسنان بالقتال والجهاد . وهذا يكون في بعض الأحيان وليس دائمًا . فليس في كل وقت يشرع الجهاد ، وليس دائما يكون الجهاد في سبيل الله – جل وعلا – بالسيف موجودًا ، بل قد تمر على الأمة فترات لا يكون فيها جهاد كما قال عليه الصلاة والسلام : « ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ »([25]) إلى آخره . أما ظهورهم بالبيان واللسان فهذا في كل زمان وأوان .

أما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا رغبة في الاستعلاء على الناس ولكن رحمة بهم ، ودلالة للخلق على الخالق – جل وعلا – وامتثالا لقوله : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران : 110] ومعنى الآية كنتم يا أمة محمد – عليه الصلاة والسلام – للناس خيرَ أمة أُخرِجت . فبعض الناس يتصور معنى الآية أن هذه الأمة خير أمه أخرجت للناس . الأمة لا تخرج للناس ، فالذي يُخرج للناس أو يُبعث للناس هو الرسول .

فمعنى الآية كنتم للناس خير أمة أخرجت لمنفعة للناس لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . فالدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، النهي عن الشرك ، النهي عن البدع ، النهي عن المحرمات ، كل هذا من معالم خيرية هذه الأمة للناس .

صحيح أن المأمور بالخير والمنهي عن المنكر قد يغضب أو لا يرغب أن يكون مأمورًا منهيا ، لكنك بدعوتك له تدله على ما فيه مصلحته . كأن يكون لديك رجل يحتاج إلى إسعاف وهو لا يدري أنه مريض ، ولا يريد أن تسعفه أو تساعده ، ولكن لا بد لك أن تسعى تسعى في مساعدته وإسعافه .

فإذا مصدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الرحمة ، وليس مصدره الاستعلاء على الخلق . فإذا رحمت العباد فأمرتهم ونهيتهم ودعوتهم إلى الله جل وعلا ، فإنك في الحقيقة تكون صاحب حق عليهم ، وصاحب فضل عليهم لو كانوا يشعرون . وقد قال بعض السلف الصالح رحمهم الله : وددت أن جسمي قُرِض بالمقاريض وأن الخلق كلهم أطاعوا الله جل وعلا([26]) .

كذلك من جهة أخرى أهل السنة والجماعة في دعوتهم وفي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وفي تعاملهم مع الخلق يتصفون بصفة في كل أحوالهم وأحكامهم وهي أنهم يتقون الله جل وعلا في ألسنتهم فلا يقولون إلا الحق كما قال – جل وعلا – في أمره لعباده : ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُواًّ مُّبيِنًا﴾ [الإسراء : 53] .

فالمتحقق بصفة أهل السنة والجماعة وبصفة الطائفة المنصورة وبسماتهم فإنه لو أغضبه أحد فإنه يكتم ويصبر ولا يقول إلا التي هي أحسن ؛ لأن المجادلة والمشادة والمضادة تُحدث الفُرْقة ، والله – جل وعلا – أمر بالاجتماع ، ونهى عن التفرق . فالإصلاح يكون بالطريقة السوية سواء بين الأفراد أي بين فلان وفلان ، أو بين فئة وفئة أخرى أو بين ما هو أكبر من ذلك يكون بالطريقة الشرعية الصحيحة .

فإذا من سمات أهل السنة السنة سلامة ألسنتهم ؛ لهذا لا يصح أن يكون المرء صاحب عقيدة وتوحيد وتجده صاحب غيبة يقدح في فلان ويسب فلانًا ، هذا يظلم القلب ويجعل فيه قسوة وغلظة والقلب محتاج إلى النور والرفق .

والمخالفة بالاعتداء في الكلام تختلف أيضا بحسب مقام المعتدَى عليه قد تعتدي على صاحب مقام رفيع فيكون أعظم في حقك . وفرق كبير ما بين النصيحة في بيان الحق وبين التشهير حتى يعلم الناس أن غيره باطل وما بين السب والشتم والألفاظ التي ليست من سمات المتحققين بمنهج السلف .

إذا فمن سمات أهل السنة والفرقة الناجية كما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أنهم لم يكونوا يمارون ولا يجادلون ؛ لأن الله نهاهم عن المراء ونهاهم عن المجادلة إلا بالتي هي أحسن حتى مع أهل الكتاب : ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت : 46] أي بأحسن ما تجدون من الكلمات والألفاظ والخطاب ، هذا مع أهل الكتاب فكيف الحال مع المسلمين؟ هذا لا بد أن يكون بأسلوب شرعي مرضي حتى يتحقق سلامة القلب وسلامة اللسان من المخالفة .

في الختام هذه كلمات قليلة في هذا الموضوع الطويل لكنها قد تُعطي بعض الصفات والسمات لما ينبغي أن يكون عليه أهل السنة والجماعة والمتبعون للسلف الصالح الذين يرجون النجاة . فلا شك أن كلَّ خيرٍ في اتباع مَن سَلَف ، وأن كلَّ شر في ابتداع من خَلَف وأن التزام طريقة أئمة الحق والسنة خير في المحال والمآل ، وأن الصبر واجب ، وأن التعلم وأخذ الحيطة للمرء في لسانه وأعماله سبب للنجاة . فلا يخاطرن أحد بدينه في مخالفة طريقتهم رحمهم الله تعالى ورضي عنهم وأرضاهم .

هذا وفي الختام أسال الله التوفيق والسداد ، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مُضلِّين . كما أسأله – سبحانه – أن يوفق ولاة أمورنا للعمل بالحق والدلالة عليه ، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى ، وأن يجعل ولايتنا فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه . إنه سبحانه جواد كريم . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .


([1]) أخرجه أحمد (4/102 ، رقم 16979) ، وأبو داود (4/198 ، رقم 4597) . وصححه الألباني في الصحيحة 204 .

([2]) أخرجه الطبرانى فى الأوسط (5/137 ، رقم 4886) ، وأخرجه أيضًا : فى الصغير (2/29 ، رقم 724) .

([3]) أخرجه البخاري (6/2667 ، رقم 6881) ، ومسلم (3/1523 ، رقم 1921) .

([4]) أخرج هذه الرواية أحمد (3/436 ، رقم 15635) ، والترمذى (4/485 ، رقم 2192) وقال : حسن صحيح .

([5]) أخرجه البخاري : (2/851 ، رقم 2287) ، ومسلم (1/560 ، رقم 818) .

([6]) كلمات بالجمع : هي قراءة نافع المدني وأبو عمرو بن العلاء ، وابن كثير وأبو جعفر وعبد الله بن عامر . وأما من قرأ بالإفراد فهم عاصم وحمزة وخلف والكسائي ويعقوب . معجم القراءات القرآنية ، للدكتور عبد اللطيف الخطيب ، 2/531 .

([7]) أخرجه أحمد (4/130 ، رقم 17213) ، وأبو داود (4/200 ، رقم 4604) . وقد صححه الألباني في الصحيحة (2870) .

([8]) أخرجه أبو داود (4/98 ، رقم 4253) ، وابن ماجه (2/1303 ، رقم 3950)

([9]) مجموع الفتاوى (4/25) .

([10]) شرح أم البراهين ص74 . وانظر منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل 1/583 .

([11]) أخرجه البخاري (1/45 ، رقم 87) .

([12]) أي تَنْحِيَتُه . النهاية : ميط .

([13]) أخرجه مسلم (1/63 ، رقم 35) .

([14]) فضائل الصحابة ، للإمام أحمد بن حنبل (1/60 ، رقم 20 ، 2/907 ، رقم 1729) .

([15]) أخرجه البخاري : (3/1343 ، رقم 3470) ومسلم (4/1967 ، رقم 2540) .

([16]) أخرجه البخاري (3/1321 ، رقم 3414) ، ومسلم (2/744 ، رقم 1064) .

([17]) أخرجه البخاري (3/1321 ، رقم 3415) ، ومسلم (2/746 ، رقم 1066) .

([18]) سير أعلام النبلاء ، سيرة أبي الحسنين الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه (2/539) .

([19]) أخرجه أحمد (4/126 ، رقم 17184) ، وأبو داود (4/200 ، رقم 4607) ، والترمذي (5/44 ، رقم 2676) وقال : حسن صحيح . وابن ماجه (1/15 ، رقم 42) . وصححه الألباني في المشكاة 165 .

([20]) أخرجه مسلم (3/1467 ، رقم 1835) .

([21]) أخرجه أحمد (5/66 ، رقم 20672) ، والحاكم (3/501 ، رقم 5870) وقال : صحيح الإسناد . وصححه الألباني في المشكاة 3696 .

([22]) أخرجه أحمد (5/66 ، رقم 20672) ، والحاكم (3/501 ، رقم 5870) وقال : صحيح الإسناد . . وصححه الألباني في المشكاة 3696 .

([23]) أخرجه البخاري (6/2612 ، رقم 6726) ، ومسلم (3/1469 ، رقم 1840) .

([24]) منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/540) .

([25]) أخرجه البخاري (3/1159 ، رقم 3005) .

([26]) هو زهير بن نعيم البابي انظر : تفسير ابن رجب الحنبلي (1/278) ، والمجالسة وجواهر العلم ، لأبي بكر الدينوري المالكي (2/312) .