قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

خَصَائِصُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ (2) الشيخ صالح آل الشيخ

القسم الثاني : القواعد التي رعاها أهل السنة والجماعة لمفارقة أهل الضلال :

القاعدة الأولى : التمسك بالكتاب والسنة في الإيمان بالله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته :

من القواعد التي رعاها أهل السنة والجماعة ، الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة في عقيدتهم وسلوكهم حتى حتى يفارقوا أهل الضلال تمسكهم بالكتاب والسنة ، وذلك بأن قالوا : إن التوحيد الذي أمر الله – جل وعلا – به في كتابه هو أن يُؤمَن به – جل وعلا – وحده دونما سواه في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته .

وقالوا إن القرآن دلنا على منهج إثبات الربوبية ، ودلنا على أن الله – جل وعلا – هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه ، وأن القرآن والسنة في كل المواضع يدلان على أن الواجب إثبات الأسماء والصفات لله جل وعلا ، وعدم تأويل شيء من ذلك بما يخرجه عن ظاهره .

وهذا بيِّنٌ في أن الأدلة دلت على أن التوحيد الذي طلبه الله – جل علا – من الناس لما بعث إليهم الأنبياء إنما هو التوحيد المتعلق بالإله المتعلق بالألوهية ، فلما أرسل تعالى رسله ، أرسلهم إلى قومهم بأن يدعوهم إلى : ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ﴾ [هود : 2] وقال جل وعلا : ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾[الصافات : 35] فأمر الله – جل وعلا – بهذا التوحيد الذي هو توحيد الإلهية وهو عبادته وحده دونما سواه .

ومن ثَم قرَّر أهل السنة والجماعة أن التوحيد الذي يُنجي العبد في العبادة إنما هو أن يوقن بأن الله هو المستحق للعبادة وحده ، وأن هذا هو معنى لا إله إلا الله ، وأن توحيد الربوبية يتضمنه توحيد الإلهية ، فمن عَبَد الله وحده دونما سواه فإنه مؤمن بأن الله وحده هو رَبُّه مفارقة لطريقة الأشاعرة والمعتزلة والمتكلمين الذين قالوا إن التوحيد المطلوب من العباد والذي يُنجيهم هو توحيد الربوبية .

فإذا كان الأمر كذلك فإن الله قد أثبت أن المشركين الذين بُعِث إليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – كانوا يوقنون بأن الله ربُّهم وأنه خالقهم ورازقهم ومدبر الأمر وذلك في قوله : ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [يونس : 31] فهم يؤمنون بأن الذي يفعل كل هذا هو الله جل وعلا ، هذا إيمان ربوبية ، لكنه لم ينجهم .

ولهذا أخطأ الأشاعرة ومن نحا نحوهم لما فسروا الإله تارة بأنه القادر على الاختراع ، وفسروه تارة أخرى بأنه المستغني عما سواه المفتقِر إليه كُلُّ ما عداه ، كما قال صاحب السنوسية من كتبهم التي يسمونها أم البراهين أي التي فيها البراهين العقلية الكافية وهي ليست كذلك ، قال “فمعنى “لا إله إلا الله” لا مُستغنِيا عما سواه ولا مُفتقِرًا إليه كُلُّ ما عداه إلا الله”([10]) ؛ إذ الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه .

وهذا يؤمن به كل أحد ، يؤمن بأن الرب ، يؤمن بأن الله – جل علا – مستغنى عن الخلق وأن الخلق مفتقرون إليه ، هذا يؤمن به أبو جهل ، ويؤمن به كل الذين عارضوا الرسل ، وليس عندهم أشكال في هذا ، إنما الإشكال ومعارضة الرسل في أن يوحِّدوا المعبود ، بأن يعبدوه وحده وأن يذروا الأصنام وأن يتوجهوا بالعبادة إلى إله واحد . ولهذا قال تعالى : ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة : 163] ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ﴾ يعني يستحق العبادة ﴿إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾[الصافات : 35] . ولما قالوا في سورة ص : ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص : 5] .

إذا فهذا المنهج مهم في أن السلف والصحابة ومَن بعدهم إلى زماننا هذا ممن لزم هذا المنهج يعلمون إن الابتلاء وقع في الألوهية . وممن أبرز هذا أيما إبراز وركز عليه الحافظ الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره فركز عليه أيما تركيز ، وهناك كثيرون قبله من أئمة السنة بيَّنوا ذلك ، لكن ابن جرير كرر هذا المعنى في تفسيره في ذكر توحيد الربوبية نصًا وتوحيد الألهية نصًا .

أما توحيد الأسماء والصفات فمعناه الإيمان بأن لله – جل وعلا – الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأنه لا مثيل له في أسمائه ولا فيما اتصف به من الصفات على ما قال جل وعلا : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى : 11] . أما الذين خالفوا طريقة أهل السنة فقالوا : إن الصفات لا يثبت منها كل ما جاء في القرآن والسنة , وإنما تقسم الصفات إلى صفات دل عليها العقل ، وصفات لم يدل عليها العقل ، بل دل العقل على أنه لا يوصف الله – جل وعلا – بها .

وهذا تفريق بين كلام الله جل وعلا ، وأَخْذ ببعض الكتاب ورد لبعضه ؛ لأن الله – جل وعلا – لما وصف نفسه في كتابه وسمَّى نفسه جعل المجال مجالاً واحدًا ، وجعل الطريق طريقًا واحدًا ، لم يفرِّق بين صفة وصفة ؛ لأنها كلها أمور غيبية فيذكر الله – جل وعلا – عن نفسه العلية وعن ذاته المقدسة – جل جلاله – ما يجب علينا أن نؤمن به ، فلماذا يفرق الإنسان بين شيء وشيء والكل جاء في القرآن والسنة؟

وهذا التفريق ليس من منهج أهل السنة ، بل أهل السنة والجماعة يجعلون الباب بابًا واحدًا ، فكل ما جاء في الكتاب أو السنة في وصف الله – جل وعلا – أو في ذكر أي أمر من الأمور الغيبية ، فإنهم يثبتونه على ما دل عليه ظاهر اللفظ دون تأويل أو تحريف يخرجه عن ظاهره أو عن دلالة ظاهرة .

ولهذا تعلمون القاعدة التي قعَّدها أهل السنة في هذا ، بأننا نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة من ذكر صفات الله – جل وعلا – أو أسماء الرحمن – جل وعلا – من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، فنحن لا نكيِّف ، ولا نمثِّل لا نعطِّل ولا نجسِّم ، ولا نتأول تلك النصوص بتأويلات تخرجها عن ظاهرها .

فإذًا إثبات اليدين لله – جل وعلا – مثل إثبات السمع له جل وعلا . قال أولئك ممن ضل في هذا الباب : إننا إذا قلنا إن اليدين مُثبتَة لله – جل وعلا – أو إن الله يوصف بالرحمة ، أو إنه يوصف بالغضب ويوصف بالرضا ، فمعنى هذا أننا شبهناه بالمخلوق ؛ لأن هذه أشياء يتصف بها المخلوق . هذا كلام طيب ، ولكن إذا سُئِلوا ما الذي أثبتم لله من الصفات؟ قالوا : أثبتنا وجود الله جل وعلا ، وأثبتنا له تعالى الكلام ، وأثبتنا السمع ، وأثبتنا الإرادة ، وأثبتنا الحياة ، وأثبتنا القدرة إلى آخره .

إذا كان الأمر كما قالوا أفليست هذه الصفات موجودة في المخلوق؟ أليس المخلوق موصوفًا بالحياة والسمع والبصر والقدرة؟ فما الفرق عندهم إذن بين اتصاف المخلوق بهذه الصفات واتصاف الله تعالى بها؟ قالوا المخلوق له منها ما يناسبه ، فقدرته محدودة .

إذا كان الأمر كذلك فإذن نقول في المقام الثاني : إن ما يليق بالله – جل وعلا – من الصفات لا يجوز أن يُنْفَى عنه ، فنقول لله – سبحانه – وجه كما يليق بجلاله وعظمته . ولو لم يخبرنا الرب – جل وعلا – بأن له وجهًا ، لو لم يخبرنا بذلك لما أثبتنا له هذه الصفة ، ولو لم يخبرنا – سبحانه وتعالى – أنه متصف بالغضب ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح : 6] لما أثبتنا له – تعالى – هذه الصفة .

وقد نفى هؤلاء أن تكون هذه الصفة لله بحجة أن الله لا يغضب ؛ لأن هذه صفة نقص في المخلوق؟ فإذا كانوا نفوا الغضب عن الله لأجل مشابهة المخلوق ، فكيف أثبتوا لله – تعالى – الصفات الأخرى مع أنها تشابه المخلوق أيضا! فإذن لا مجال لهم في الإنكار .

لهذا من خصائص أهل السنة والجماعة أنهم لا يفرِّقون في باب الأسماء والصفات ولا في باب الغيبيات بين باب وباب . فمثلاً في باب الغيب قال جل وعلا : ﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ﴾ [الأنبياء : 47] فيمكن أن يأتي آتٍ ويقول ليس هناك موازين ؛ لأن من يحتاج الميزان هو الشخص الذي يُشَك فيه أعادل هو أم ليس بعادل؟ والله – جل وعلا – يوم القيامة هو الحكم العدل سبحانه ، فما يحتاج إلى موازين . فإذن معنى هذه الموازين العدل . وإذا سُئل أمثال هؤلاء لماذا قلتم هذا؟ فسيقولون لأن العقل والمنطق يوحيان بذلك ، وأنه لا احتياج إلى هذه الموازين .

أما أهل السنة والجماعة فقالوا : أثبت الله الموازين فنثبتها ، والله – جل وعلا – جعل الميزان في مثقال ذرة فقال عز من قائل : ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة : 7] لاحظ كلمة مثقال ثم قال تعالى ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾ [الزلزلة : 8] .

ثم إن وَضْع الشيء في الميزان ليس لحاجة الله – جل وعلا – أن يُثبت عدله ولكن لإقامة الحجة على المخلوق المكلف بأن هذا هو ميزانك ، هذه هي حسناتك ، وهذه سيئاتك وأنت الآن الحكم على نفسك ﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء : 47] . وفي الآية الأخرى قال جل وعلا ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء : 14] .

فيُعطَى الإنسان الكتاب قبل الميزان فينظر في كتابه فيجد كل شيء عمله من خير أو شر . ثم يضع الله الميزان فينظر العبد فيجد أن حسناته وسيئاته قد وُضِعت فيه . إذًا لا شك أن التأويل الذي يُخرج هذه الآيات عن ظاهرها باطل .

فإذن من خصائص أهل السنة والجماعة والطائفة الناجية أنهم لا يخوضون في آي القرآن ولا في دلائل السنة بتأويل يصرفها عن ظاهرها ، بل يؤمنون بالغيب كله ؛ لأن الله أثنى عليهم بقوله في أوائل سورة البقرة ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة : 2] . ثم بيَّن تعالى أن أول صفات المتقي الذي يخاف الله جل وعلا ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة : 3] . ثم بعد ذلك ذكر العبادات .

الإيمان بالله إيمان بالغيب ، الإيمان بالملائكة إيمان بالغيب ، الإيمان بالرسل الذين سلفوا إيمان بالغيب ، الإيمان بالكتب إيمان بالغيب ، الإيمان بالقدر إيمان بالغيب ، الإيمان باليوم الآخر إيمان بالغيب . فحقيقة أركان الإيمان والعقيدة ترجع إلى أنها إيمان بالغيب ، فمن آمن ببعض الغيب وتأوَّل بعضه فإنه خارج عن صراط الصحابة والفرقة الناجية في ذلك . هذه مسألة ، إذًا في مسائل التوحيد هذا نهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم .

القاعدة الثانية : الإيمان بأن الله – جل وعلا – جعل لكل شيء قدرًا :

فالقاعدة الثانية عند أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية أنهم يؤمنون بأن الله قد جعل لكل شيء قدرًا . فكما أنه جعل لكل شيء قدرًا ، فما خلق – سبحانه – من شيء إلا بقدر ، فقال سبحانه وتعالى : ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان : 2] ، وقال – سبحانه – في سورة القمر : ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر : 49] ، وقال أيضا سبحانه : ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ [الأحزاب : 38] .

فإذًا الإيمان بالقدر سمة من سمات أهل السنة والجماعة . ومما تميزوا به من إيمانهم بالقدر أنهم يعلمون أن الله – سبحانه – جعل لكل شيء سببًا ، فأناط الأسباب بالمسببات ، وأناط – تعالى – والنتائج بالأسباب وبالمقدمات ، فيقول أهل السنة والجماعة : إن الله – جل وعلا – جعل السبب ينتج المسبب . ومن فعل السبب فقد أتى بالواجب عليه لأنه من الواجب على العبد أن يأتي بالأسباب التي توصل إلى المقصود .

والإيمان بالله – جل وعلا – أعظم الأسباب التي توصِّل إلى المقصود الذي هو نجاة العبد يوم القيامة كذلك الإيمان بكل ما في القرآن . وأعظم الأسباب التي توصِّل إلى هذا المقصود أيضا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم . وهكذا فهذه من الأسباب العظيمة حتى لا يتمنى أحد على الله الأماني .

وكذلك الشأن في الأمور الكونية فقد جعل الله – جل وعلا – الماء منبتًا للزرع ، قال جل وعلا : ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ﴾ [ق : 9] ، أنبت – تعالى – به جعله سببا في ظهور ونمو تلك الجنَّات والحب المحصود . وُلِد فلانُ بن فلانٍ فمقدَّر أنه سيأتي في اليوم الفلاني وفي الساعة الفلانية سيخرج إلى الدنيا ، لكن جعل الله – تعالى – لإتيانه سببًا وهو أن فلانًا يتزوج فلانة في يوم معلوم ثم يواقعها في وقت معلوم إلى آخره ، فتحمل بإذن الله جل وعلا . هذه أمور الأسباب يُؤمن بها أهل السنة والجماعة ، لكنهم في نظرتهم إلى هذه الأسباب ، لا ينظرون إليها ولا يلتفتون على أنها وحدها هي التي تُحدث المقصود ، بل ينظرون إليها على أنها مجرد سبب والله – جل وعلا – هو الذي ينفع بالسبب ويجعل السبب نافعًا .

فعلى سبيل المثال إذا ذهب شخص إلى الطبيب ، فأعطاه الطبيب دواءً مناسبا لهذا المرض . فالذهاب إلى الطبيب سبب مشروع لا بأس به ، وتناول الدواء المباح أيضًا لا بأس به . ولكن هل إذا فعل المريض ذلك ، لا بد أن يحصل له الشفاء؟ الإجابة : ليس شرطًا أن يحصل له الشفاء .

فإذًا يجب على المسلم أن يأتي السبب ثم بعد ذلك ، يفوِّض الأمر إلى الله – جل وعلا – في الانتفاع بهذا السبب . أما محو الأسباب مطلقا بألا يكون هناك أسباب كما هو الأمر عند غير أهل السنة والجماعة من الذين ينفون الأسباب ويقولون في باب القدر بالجبر فيقولون إن هذه الأسباب أشياء خلقها الله – جل وعلا – للظاهر ، ولكن الإنسان في الحقيقة مجبور على كل شيء .

فنقول لهم : إن الإنسان يعلم أنه إذا شرب الماء فإنه يرتوي ، فإذا شرب الماء فارتوى فكيف يحدث له الارتواء إذن؟ ولكنهم يجيبون بسؤال : ماذا يقول أهل السنة في ذلك؟ يقولون : الارتواء حصل بسبب الماء ، شربت فارتويت . هذا سبب ظاهر ، والنار إذا أشعلتها في شيء فأحرقته ، فهل النار هي التي أحرقت؟ فمن الذي جعل النار تحرق هذا الشيء؟ ومن الذي جعل الماء يروي؟ الذي فعل كل هذا هو الله جل وعلا .

ولو أراد الله جل وعلا ، أن يبتلي العبد بأن يشرب من الماء أنهارًا ولا يرتوي لفعل – سبحانه وتعالى – كما يحدث مع بعض المرضى ، أو كما يحصل مع من ابتلاهم الله جل وعلا . كذلك لو أراد الله – جل وعلا – أن يُبطل فِعْل النار بألا تؤثِّر بالإحراق لأبطل ، فهذه كلها أسباب ، وقد أبطل فِعْل حين قُذِف فيها إبراهيم الخليل عليه السلام ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء : 69] . هذا قول أهل السنة .

أما أهل البدع والجبرية فإنهم يقولون : لما شربت الماء أحدث الله لك الشعور بالارتواء ، لما اقترنت النار بهذه الورقة أحرق الله الورقة ، لما حصل التقاء الذكر بالأنثى وضع الله – جل وعلا – الحمل . وهذا كما يرى أي مُنصف خلَلٌ في العقل والتفكير ؛ لأنك تسلب الأسباب أن تكون أسبابًا .

ولهذا سار أهل السنة في القدر على منهاج رَضِيٍّ لأنهم نظروا إلى الأسباب نظرًا صحيحًا . ومسألة الأسباب مسألة مهمة في السلوك وفي القدر وفي الإيمان ؛ لأن بها وضوح النظرة إلى هذه الأشياء .

ومن منهج أهل السنة والجماعة في باب القدر أيضًا أنهم قالوا : إن الله – جل وعلا – جعل الإنسان مخيَّرًا ، يختار طريق الحق أو يختار طريق الضلال كما قال سبحانه ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[البلد : 10] يعني طريق الخير وطريق الشر يختار ، وقال أيضا : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس : 7 - 10] ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ في الخير ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس : 10] في الشر . فالإنسان هو الذي يسعى في تزكية نفسه ، أو يسعى في تدسيسها وخيبتها .

لكن كما أنه ليس بمجبر ، وإنما له حق الاختيار ، فهناك شيء مهم وهو أن الله – جل وعلا – يُعِين ويوفِّق من توجَّه إليه ، أي إنه يُعين الذي يرغب في الخير ويوفقه ، والذي يرغب في الشر ويسعى إليه يَخْذُله ويَكِله إلى نفسه . فلهذا المؤمن المصدِّق بالقدر يرى أنه فيما أطاع الله فيه أنه ليس من عند نفسه ، نعم هو اجتهد ، لكن الله أعانه . وهذا يُحس به كل واحد في نفسه من أن الله أعانه . كذلك الذي عصى الله – جل وعلا – إنما عصى الله – جل وعلا – بمحض اختياره ، والله – جل وعلا – خذله ووكله إلى نفسه .

القاعدة الثالثة : أمور الغيب بابها واحد .

ومن هذه القواعد في هذا الباب أيضا أن أمور الغيب بعامة بابها واحد كما سبق ، وأنه لا يتعرض فيها بالتأويل . ونخص التأويل هنا ذكر لأنك تجده مبثوثًا في كثير من كتب التفسير وكتب الحديث , فيخرج بالمسألة الغيبية عن ظاهرها إلى ما يقبله العقل .

والتأويل لفظ كان مستعملاً ، بل جاء في القرآن وجاء في السنة , واستعمله المتأخرون على معنى باطل . أما ما جاء في القرآن والسنة , فإن له معنيين , المعنى الأول التأويل بمعنى التفسير أي إن تأويل كذا يعني تفسير كذا ، كما قال جل وعلا : ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقاًّ﴾ [يوسف : 100] تأويل رؤياي أي تفسير رؤياي ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ﴾[يوسف : 44] أي وما نحن بتفسير الأحلام هذا هو المعنى الأول التأويل بمعنى التفسير .

والمعنى الثاني الذي في القرآن التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقائق القرآن ، حقائق الأحكام ، أو حقائق الأخبار ، وتؤول إليه أي تنتهي إليه ، وهذا كما في قوله جل وعلا : ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [آل عمران : 7] . ويشمل ذلك تأويل التفسير فيما اشتبه على بعض الناس عِلْمه ، ويشمل التأويل الذي تؤول إليه الحقائق يوم القيامة ، كما في قوله – تعالى – في سورة الأعراف : ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أي تأويل القرآن : ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء﴾ [الأعراف : 53] .

فإذن المعنى في قوله : ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ ما تؤول إليه حقائق القرآن يوم القيامة . وما تنتهي إليه الأمور يوم القيامة يبين الوصف الحق ، يُبين الجنة والنار ، يبين الظالم والمظلوم ، يبين الحقائق والأغاليط . والتأويل بهذين المعنيين اللذين جاءا في القرآن صحيحان .

أما التأويل بالمعنى الثالث الباطل الذي ينفيه أهل السنة والجماعة ، وليس من منهجهم وهو أن يُصرَف اللفظ الذي في القرآن أو السنة مما يتعلق بأمور الغيب إلى معنى آخر لا يدل عليه ظاهر اللفظ ؛ لأجل العقل أو توافق اللفظ مع العقل . وهذه هي طريقة المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والكلابية وفئات كثيرة ويدخل فيهم الرافضة والزيدية والإباضية والخوارج وغيرهم ، كلهم ينحون هذا المنحى في التأويل ؛ هذا لأنهم يقولون لقد دلَّنا العقل على أن هذه اللفظة لا نحملها على ظاهرها ، ولكن يحملونها على معنى ثان يؤولونه بما يتفق مع العقل ، فهذا تأويل باطل .

فالتأويل في اللغة التفسير ، والتأويل جاء في القرآن بمعنى التفسير تفسير الآية بظاهرها ، فإذا كنت لا تحسن تفسير ظاهرها ، فأمررها كما جاءت ، فإن ذلك تفسيرها حتى لا تدخل نفسك فيما لا علم لك به .

القاعدة الرابعة : الإيمان قول وعمل واعتقاد :

القاعدة الرابعة في هذا الأمر المهم أن أهل السنة والجماعة تميزوا بأنهم يعتقدون في الإيمان أنه قول وعمل واعتقاد ، قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان ، يعني بآلات الإنسان ببدنه ، واعتقاد بالجنان . وليس الإيمان اعتقاد بدون عمل ، أو قول واعتقاد بدون عمل فلا بد من الثلاثة مجتمعين . هذه حقيقة الإيمان وهي أركان الإيمان .

وليس قولهم في الإيمان كقول من خالفهم لأنهم أخذوا مسألة الإيمان مما دل عليه القرآن والسنة قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس عندما أمرهم بالإيمان بالله – عز وجل – وحده : قَالَ : « هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ » قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : « شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ ، وَتُعْطُوا الخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ »([11]) .

فهنا سألهم صلى الله عليه وسلم : « هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ » هذا سؤال عن بيان الحقيقة ، يريد أن يبين لهم – صلى الله عليه وسلم – حقيقة الإيمان وماهيته ، فذكر الشهادتين ، ثم ذكر الأعمال : الصلاة عمل بدني ، والزكاة عمل مالي ، وأداء الخمس من المغنم وهو نتيجة الجهاد في سبيل الله .

كذلك في الحديث الآخر « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً ، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ([12]) الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ »([13]) .

ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الثلاثة ليبين الأعلى والأدنى . والحظ أن الأعلى قَولٌ , والأدنى عَمَل , والحياء شيء في القلب , أي أمر قلبي ينتج عنه أشياء ؛ وذلك ليدل عليه الصلاة والسلام أمته على أن الإيمان فيه أقوال وأعمال وأشياء قلبية .

إذًا فهذه حقيقة قول أهل السنة الذي تميزوا به . أما الخوارج والمعتزلة ومن خالف أهل السنة فإنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا , إما أن يأتي كلُّه , أو يزول كله . وأما أهل السنة فقالوا : العمل يختلف ، فعمل فلان يختلف عن فلان , هم درجات عند الله, هذا رجل متعبد وآخر خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا ,فهل يستوون؟ فالإيمان يتبعض, فهو مراتب فبعض الناس أعلى من بعض في الإيمان .

والأمر الثاني عند بعض المخالفين لأهل السنة والجماعة من الفرق الأخرى أنهم قالوا : إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن , لأنه فَقَد شرط صحة الإيمان , وهو العمل . أما أهل السنة والجماعة فيقولون هو مؤمن بإيمانه , لكنه فاسق بكبيرته . شخص عنده أعمال صالحة وهو نفسه لديه أعمال أخرى سيئة ، يقول الله – جل وعلا – في مثل هؤلاء ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة : 106] وقال جل وعلا أيضا في وصفهم ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة : 102] .

فالذي يأتي إلى الناس ويقول : إن الإيمان إما أن يأتي كله , وإما أن يذهب كله . فهذا ليس على طريقة أهل السنة والجماعة , سواء أكان فردًا أم كان حاكمًا . فإن هذا ليس من أقوال أهل السنة , بل طريقة أهل السنة والجماعة , الطائفة المنصورة في باب الإيمان أنهم يقولون : الإيمان يتبعض وأن المؤمن يمكن أن يعمل خيرًا , ويمكن أن يعمل شرًا , فهو ربما جمع بين هذا وهذا , وهو بذلك مؤمن بإيمانه , فاسق بكبيرته , لا نسلبه اسم الإيمان لأجل معصية وقع فيها .