قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

خَصَائِصُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ (1) الشيخ صالح آل الشيخ

مقدمة :

الحمد لله الذي بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدًا ، أحمده – سبحانه – حَمْد عبد معترف بما له – جل وعلا – من الآلاء والنعم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا . وأسأل الله – جل وعلا – أن يجعلنا جميعًا ممن أصلح قوله وعمله ، وجعل حياته زيادة في كل خير ، ونعوذ به – جل وعلا – من الخُذْلان كما نسأله أن يلزمنا كلمة التقوى وطريقة السلف الصالح التي هي أولى .

إن بيان خصائص الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ينتظم في عقيدة أهل السنة والجماعة وفي صفاتهم ، وهو موضوع مهم ؛ لأن الحاجة ماسة في كل زمان ومكان إلى بيان ما عليه أهل السنة والجماعة الذين وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم – بالنجاة من النار . وهو درس هام لكل مسلم لأن يحتذي حذوهم ويلازم طريقتهم ويستمسك بعُرَى الدين الذي هم عليه .

فقد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : « إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِى دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَكُلُّهَا فِى النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ وَهِىَ الْجَمَاعَةُ »([1]) وفي رواية أخرى قال : « هِيَ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي »([2]) .

وهذا الحديث يدل على أن الطائفة الموعودة بمغفرة الله – جل وعلا – وبالنجاة من عذابه في النار , أنها هي الملازمة للجماعة ، والملازمة لما كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ؛ ول

هذا تنوعت أسماء هذه الفئة عند أهل العلم إلى عدة أسماء, فتارةً يسمونها أهل السنة والجماعة باعتبار أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نَصَّ على أنها الجماعة ، وأنها على مثل ما هو عليه – عليه الصلاة والسلام – وأصحابه ، يعني على السنة فصاروا أهل السنة والجماعة .

ومن أهل العلم من يصفهم بأنهم الفرقة الناجية , وهذا وصف جاء متأخرًا ، ولم يكن معروفًا في الزمن القريب منه عليه الصلاة والسلام ، ولكنه أُخِذ من أن هذه الفرقة نَجَت من النار من بين الثلاث وسبعين فرقة , فسُمِّيت فرقة ووصفت بأنها ناجية , فسميت الفرقة الناجية .

ومنهم من يقول هي الطائفة المنصورة . وهذا باعتبار أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بَيَّن أنه « لا تَزالُ طَائِفةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِى أمْرُ اللَّهِ وهُمْ كَذلِك »([3]) . وفي لفظ آخر « لاَ تَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ , حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ     »([4]) .

وهذا يدل على أن هذه الطائفة على الحق , والحق هو الذي عليه الفرقة الناجية ، تلك الفرقة التي تميزت من بين الثلاث وسبعين فرقة برضى النبي صلى الله عليه وسلم , وبوعده لها بأنها ناجية من النار ، وبأنها منصورة من الله ؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – نظر إلى أن الله – جل وعلا – وعد من استمسك بكتابه وبسنة نبيه – عليه الصلاة والسلام – بالهَدْي الأول بأنه سينصره كما قال – جل وعلا – في كتابه العزيز : ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر : 15 - 52] .

كما جاء في قوله – تعالى – في آخر سورة الصافات : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ [الصافات :171 - 173] . وجاء أيضا في قوله تعالى :﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الروم : 47] ونحو ذلك مما فيه لفظ النصر والنصرة من الله جل وعلا .

لهذا هذه كلها أسماء لشيء واحد ولمسمى واحد ولطائفة واحدة ، فيقال أهل السنة والجماعة ، الطائفة المنصورة ، الفرقة الناجية وهي أسماء متقاربة متحدة الدلالة ، بعضها يدل على الآخر كما سبق أن ذكرنا .

وإذا تبيَّن ذلك فلا شك أن هذه الفئة والطائفة قد وصفت بأنها الجماعة وأنها ملازمة لطريق النبي – صلى الله عليه وسلم – وطريق صحابته ، وأنها على الحق . وهذا يدل على أنها لم تُبدِّل في دينها عما كان عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين .

وهذه السمة هي الأصل العظيم في معرفة السمة الكبرى التي تندرج تحتها جميع السمات والصفات والخصائص في أنهم يلازمون طريقة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهَدْيه وسنته وهدي الصحابة وطريقتهم .

ومعلوم أن الإسلام – كما قسَّمه طائفة من العلماء – ينقسم إلى عقيدة وشريعة . ويُراد بالعقيدة يُراد بها ما ليس من أمور الفروع ، أي ما ليس من أمور العبادات والمعاملات … إلخ ، ولكن يراد بها الأمور الغيبية ، أي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله . . .إلخ وما يُعتقَد بالقلب ولا يدخله العمل من جهة لفظه . وأما الشريعة فيُقصَد بها أنواع العبادات والمعاملات والسلوك إلى آخره . وإن كان يمكن أن يُقصًد بالشريعة العقيدة في بعض الاستعمالات .

ولا شك أن الصحابة – رضوان الله عليهم – قد أجمعوا على مسائل العقيدة والشريعة . ولكنهم اختلفوا في بعض المسائل الفقهية فعذر بعضهم بعضًا فيها ، ولم يَعب بعضهم على بعض ؛ لأن في الدليل ما يدل على كل قول من الأقوال . وللمجتهد أجران إن أصاب ، وله أجر إن أخطأ .

وأما مسائل العقيدة فإنهم لم يختلفوا فيها ، وكذلك أجمعوا على طائفة من مسائل الشريعة ، سواء في مسائل ما يجب أو فيما يحرم ، فأجمعوا في الواجبات على شيء وأجمعوا في المحرمات على شيء : ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء : 115] .

لهذا وجب على كل مسلم يريد سلامته ونجاته وخصوصا طلاب العلم الذين ائتمنهم الله – جل وعلا – لحرصهم على العلم على أن يأخذوا العلم من مصدره وعلى ألا يفرقوا دين الله جل وعلا – وجب عليهم جميعًا أن يهتموا بأمور العقيدة وأمور الجماعة أعظم اهتمام ؛ لأنها السمة العظيمة لهذه الفئة والفرقة الناجية الطائفة المنصورة .

وإذا نظرنا إلى هذه السمات والخصائص التي ستأتي فإننا سنجد أنها منقسمة إلى عدة أقسام ، منها :

القسم الأول : ما يتصل بالأصل الأصيل الذي هو منهج التلقي ومعرفة الأدلة التي يستدل بها المستدل فيما يريده من مسائل .

والقسم الثاني : فيما يتصل بقواعدهم في العقيدة التي بها تميزوا عن فِرَق الضلال ، من الخوارج والمرجئة والمعتزلة ، وأشباه هذه الفرق التي خالفت طريقة الصحابة رضوان الله عليهم .

والقسم الثالث : ما يتعلق بمنهج التعامل مع أصناف الخلق ومسائل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعامل مع أصناف المسلمين من طائعين ومبتدعة وعصاة . . إلى غير ذلك .

القسم الأول : منهج التلقي ومعرفة الأدلة التي يستدل بها في المسائل :

فإن أهل السنة والجماعة ، والطائفة المنصورة التي هي على الحق ساروا وَفْق ما أمر الله – جل وعلا – في معرفة ما يُستدَل به ؛ لأن الإنسان المسلم إذا أراد أن يبرهن على قضية فلا يجوز له أن يبرهن عليها بأي برهان يأتي على ذهنه ، بل يجب أن يكون له منهج في الاستدلال وفي التلقي ، وأن يكون له ضابط يضبطه في كيفية الاستدلال .

ولهذا عندما أراد أهل البدع الاستدلال ببعض الأدلة دون بعض خابوا وخسروا . فالخوارج مثلاً أخذوا ببعض أدلة القرآن دون بعض ، وأخذوا ببعض السنة دون بعض . كذلك المرجئة أخذوا ببعض الأدلة دون بعض ، وهكذا أهل الاعتزال أخذوا ببعضٍ دون بعض ، سلَّطوا العقل على الأدلة ، فجعلوا الدليل تابعًا للعقل ، أو استدلوا بالعقل المجرد وجعلوه هو الحق ، وجعلوا الدليل إذا خالف العقل غير صالح للاستدلال به ؛ لأن العقل عندهم قطعي ، وأما الأدلة ولو كانت من الكتاب والسنة وعمل السلف أو أقوالهم فإنها مظنونة كما يزعمون .

ولهذا قال بعضهم إن العقل هو القاضي المصدَّق ، وإن الشرع هو الشاهد المعدَّل . فجعلوا مرتبة العقل القضاء والقاضي الذي يفصل ، وجعلوا الشرع شاهدًا . وهذا من أعظم السمات التي يتسم بها من لم يأخذ بطريقة الصحابة رضوان الله عليهم .

لهذا كان الكتاب والسنة والإجماع مصدر التلقي في معرفته تعالى ، في المسائل كلها ، في مسائل الغيب والإيمان والقضاء والقدر ، بل في التوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وما سيأتي من مباحث . ولا بد من معرفة كيف نستدل؟ وبم نستدل؟

 فأدلة أهل السنة والجماعة على مسائلهم في الأمور التي تميزوا بها عن غيرهم واتفقوا عليها هي الكتاب والسنة والإجماع . وأما العقل فإنهم يجعلونه تابعًا للنقل ، فإن الشرع دلَّ على العقل ليُفهم به النص ، لا أن يكون العقل معارِضًا لما دل عليه الدليل ؛ لأن العقل اجتهاد فرد ، أما الدليل فهو وحي من الله جل وعلا .

وإذا قال قائل العقل فإنما هو قول لا حقيقة واحدة له ؛ لأنه إذا قيل : إن العقل يدل على كذا . فعقل من؟ هل هو عقل واحد أو عقل اثنين أو عقل عشرة أو عقل مائة؟ إلى آخره فالعقول تختلف والمدارك تختلف ؛ ولهذا وجدنا من يقولون ويزعمون أنهم أصحاب العقول الكبيرة تغيرت أفكارهم ومذاهبهم في بعض المسائل العظيمة لما كبروا في السن وتغيرت عقولهم ومداركهم ، ورأوا أنهم لم يدركوا الأمر على حقيقته . وذلك لأن عقل الإنسان ينمو مع الزمن ، فعقله وهو ابن ثلاثين يختلف عن عقله وهو ابن أربعين ، ويختلف عن عقله وإدراكه وهو ابن خمسين وهو ابن ستين .

فإذا كلمة العقل هذه ليس لها دلالة واحدة يُرجع إليها ، لا من جهة الأشخاص بأن يُقال عقل الناس يدل على كذا . وكذلك جهة عقل إنسان معين نفسه فإنه يختلف ما بين فترة وأخرى ، فالعقل يختلف باختلاف السن ، باختلاف المعلومات ، باختلاف أنواع الإدراكات ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[يوسف : 76] . ولهذا كان العقل في الشرع مُقدَّرًا ولكنه تابع للشرع ؛ لأنه لا يمكن أن يستقل بالإدراك ، بل لا بد أن يكون تابعًا للمصدر الحق .

فإذًا منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة منحصر في الكتاب والسنة والإجماع . والمقصود بالكتاب القرآن الذي يشمل جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله جل وعلا . فتارة يُستدل بقراءة حفظ عن عاصم وتارة يستدل بقراءة أخرى . وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتواتر برواية أكثر من عشرين صحابيا أنه قال : « إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ »([5]) .

والقرآن حجة لأنه من الله جل وعلا ؛ لهذا قال الله جل وعلا : ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[المائدة : 49] . ويكون الحكم في المسائل العلمية والعملية . كما قال جل وعلا : ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنعام : 115] ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي الشريعة ﴿صِدْقًا﴾ أي فيما أخبر الله – جل وعلا – به في أمور الغيب ﴿وَعَدْلاً﴾ فيما أمر به ونَهَى عنه من أوامر ونواهٍ . وفي قراءة أخرى ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ﴾([6]) .

وقد أمرنا الله – جل وعلا – باتباع سنة نبيه – عليه الصلاة والسلام – وتحكيمها فيما بيننا فقال جل وعلا : ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر : 7] والحظ قوله تعالى في الجملة الأولى ﴿وَمَا آتَاكُمُ﴾ حتى لا يكون ما آتانا النبي – صلى الله عليه وسلم – مُنحصرًا في الأحكام العملية فقط ، بل قال تعالى : ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ أي كل ما آتانا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بما يشمل العقائد وأمور الغيب وما يشمل المسائل العملية .

وأما النهي فهو راجع إلى العمل لا إلى الأخبار ، لأن الأخبار لا مجال فيها للنهي ، بل ما أوتينا منها فإننا نصدقه كما أنزله الله جل وعلا ، وكما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم . وقد صح عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه قال : « أَلاَ إِنِّي أُتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ »([7]) .

وقد أمر الله – جل وعلا – بطاعة نبيه – عليه الصلاة والسلام – في أكثر من ثلاثين موضعًا كما هو معلوم ، وطاعته في الأوامر والنواهي بامتثال الأمر واجتناب النهي ، والاستغفار عن التقصير وطاعته أيضا تشمل طاعته في الأخبار بتصديقها .

لهذا من المهم أن يكون الاستدلال في مسائل الاعتقاد ، في المسائل الغيبية ، في مسائل المنهج ، في المسائل التي يختلف فيها الناس فيما بين الفِرْق التي انقسمت يكون – يجب أن يكون الاستدلال بكتاب الله – جل وعلا – وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم بالإجماع ؛ لأن الإجماع حجة .

وقد ذكر الشافعي – رحمه الله تعالى – أنه لما سئل من أين أتيت بأن الإجماع حجة؟ قال فقرأت القرآن ، أريد دليلاً على أن الإجماع حجة ، حتى بلغت قوله تعالى في سورة النساء ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء : 115] ، و﴿غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ﴾ أي غير ما أجمع عليه المؤمنون ، ومن يفعل ذلك يتوعده الله – جل وعلا – بأن يوليه ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرًا ؛ وذلك لأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما جاء في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ أُمَّتِى لاَ تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلاَلَةِ فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلاَفًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ »([8]) .

فإذًا منهج الاستدلال – وتحت هذه الجملة تفصيلات – يكون بالقرآن ويشمل ذلك جميع الأحرف السبعة والموجود منها الآن القراءات العشرة أو الأربعة عشر ، وهي تدخل أو هي بمجموعها بعض الأحرف السبعة بمجموعها . ولا صلة بين الأحرف السبعة والقراءات السبعة ، القراءات السبعة اصطلاح اصطلحه أبو بكر بن مجاهد في كتابه “السبعة في القراءات” اختار من قُرَّاء المسلمين الذين نقلوا القرآن سبعة قراء وجعلهم في كتابه . وهذا شيء ليس مساويًا للأحرف السبعة وإن اشتركوا في أن هذه سبعة وهذه سبعة .

أما السُّنَّة فيُستدل عند أهل السنة والجماعة بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا يعتني أهل السنة والجماعة بما صحَّ من السنة ، وبما لم يصح منها . ولكن لا يُستدل بما لم يصح في مسائل الاعتقاد وفي المسائل العظمى ؛ ولهذا يقول ابن تيمية – رحمه الله – في معرض كلام له : “أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة ، بل إما في تأييده ، أو في فرع من الفروع”([9]) .

وذلك لأن السنة الصحيحة حجة فإذا ثبت الحديث بأن كان حديثًا صحيحًا أو كان حديثًا حسنًا ، إما أن يكون حسنًا لذاته أو أن يكون حسنًا لغيره لتقوية الشواهد له ، ولم يكن فيه نكارة ولا شذوذ ، فإنه يحتج به وهذا من التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أما الإجماع فإنه إذا نقله جَمْع من العلماء وقالوا : أجمع العلماء على كذا فإنه يُقبل . وأما إذا قال أحد العلماء : أجمع العلماء على كذا ، فإنه قد يكون له اصطلاح في الإجماع كما كان لابن المنذر – رحمه الله تعالى – اصطلاح في الإجماع ، وكما كان لغيره اصطلاح في كلمة أجمع ، وكذلك : اتفقوا على كذا .

فإذا نقل أكثر من عالم هذا الإجماع ولم يُتَعقَّب فإن هذا يدل على صحته ، وكذلك ما اشتهر من الإجماعات حتى غَدَا معروفًا عند أهل السنة والجماعة بحيث لا يُحتاج فيه إلى إثبات نقل عليه ، مثل تقديم أبي بكر – رضي الله عنه – في الخلافة لتقدُّمه في الفضل ، وكذلك تقديم عمر بعده لتقدُّمه في الفضل ، وكذلك تقديم عثمان بعده على من عداه من الصحابة لتقدمه في الفضل ، وهكذا علي رضي الله عنه ، فإننا نعلم أن الصحابة أجمعوا واتفقوا على هؤلاء الأربعة على ما صاروا إليه بنقل جماهير المسلمين ، بحيث كان فائضًا ومستفيضا ومن المعلوم .

إذًا نلحظ أنه ليس في منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة تقديم للعقل كما هو الأمر عند المعتزلة ، وليس فيه الأخذ ببعض الكتاب دون بعض كما عند الخوارج والمرجئة وفئات أخرى ، وليس فيه تقديم أو الاحتجاج بالمنامات أو بما يسمونه الفيوضات ، كما عند الصوفية وبعض الناس الذي يرون أنه صاروا متعبدين بالمنامات التي ظنوها وحيًا وربما خالفت الشرع .

ولهذا يُحكى عن أحد العلماء وأظنه عبد القادر الجيلاني وكان سُنِّيا وإن خالف مَن بعده فعظَّموه حتى خرجوا عن طريقة السلف . قال : جاءني الشيطان في المنام فقال : أنا ربك ، وقد أسقطت عنك الصلوات فقال : قلت اخسأ فأنت الشيطان أعوذ بالله منك . قال : فساح ولم أره . وذلك لأن الشريعة لم تُسقط الصلوات عن أحد من عباد الله . فهذا عالم لا يمكن أن يأخذ بكلام أحد يأتيه في المنام ويجعله مقدَّمًا على ما جاء في النصوص وما أوجب الله عليه .

وقد ضل بهذا الطريق طوائف من الناس فرأوا أن الصلوات والعبادات ربما سقطت عنهم ، وأنهم وصلوا إلى حالة من الإيمان والقوة بحيث إنه إذا عاشر منكرًا أو أنه إذا ترك واجبًا فإن ذلك لن يضره في إيمانه ، ومن هنا أسقطوا عن أنفسهم التكاليف .

 فإذًا الاستدلال بالمنامات ، والاستدلال بأن يقول الشخص : جاءني ما جاءني بالفيوضات ، ورأيت كذا ، كل هذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة ولا من طريقة الفرقة الناجية ، بل هو من طرق أهل الضلال .

فلا يُقدَّم العقل ولا تقدم المنامات ولا الفيوضات ونحو ذلك مما يستدل به من يستدل ممن خالف طريقة الصحابة رضوان الله عليهم . وفي كل هذه المسائل تفصيلات لكن ذكرناها باختصار وإجمال من أجل استيعاب الموضوع .