قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

فقه الفتن - لفضيلة الشيخ سليمان بن سليم الله الرحيلي.



فقه الفتن

بسم الله الرحمـٰن الرحيم

الحمد لله الملك القدوس السلام، أكرمنا بدين الإسلام، وأكمل لنا الدين وأتمَّ علينا الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده المعبود الحق على الدوام، وعد الموحدين بالجنة دار السلام، وتوعَّد العصاة بجهنم دار الانتقام، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام، ختم الله به الأنبياء فكان مسك الختام، من التزم سنته اهتدى واستقام، ومن أحدث في أمره ما ليس منه فهو رَدٌّ مع الآثام. صلى الله عليه وسلم أكمل صلاة وأتم سلام، ورضي الله عن آله الطيِّبين الأعلام وصحابته الخيار الكرام. أما بعد:
فأيها الإخوة الفضلاء.. أحييكم بتحية الإسلام: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلا وسهلا بالذين أُحبُّـهم وأَودُّهـم في الله بالآلاء

أهلا بقوم صالحين ذوي تقى غُرِّ الوُجوه زَينِ كُلِّ مَلاءِ
أيها الإخوة أيها الأحبة.. إنّ الله –سبحانه وتعالى- حكيم عليم خبير خلقنا وأوجدنا وجعل الدنيا سكنًا لنا ولم يجعلها مستقرًا لنا، وإنما هي دار ممرّ إلى الدار العظمى؛ إلى الدار الآخرة.
وقد شاء الله بحكمته أن يجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، وجعل فيها أنواعًا من الفتن يتميَّز بها الصادقون من الكاذبين والثابتون من الناكصين، كما قال ربنا –سبحانه وتعالى-: {الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:1-3] .
والفتن أنواع متنوعة، فمنها: فتنة المال والولد، يقول الله –عز وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:28]. يقول العلماء: إن العبد في الدنيا قد يفتَن بماله وقد يفتن في ماله، وإن العبد في الدنيا قد يفتن بولده وقد يفتن في ولده وقد يفتن من ولده.
ومن الفتن أيضا فتن الخير والشر والطاعة والمعصية، والغالب أنّ الطاعة والخير تحتاج إلى صبر فهي في جانب المكروهات والمكاره في جهة ما يلحق الإنسان من تعب فيها.
وفتنة الشر والمعصية والغالب أنّ المعاصي تكون من جهة الشهوات التي قد يحبها الإنسان وتزيَّن له، يقول الله –عز وجل-:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35].
ومنها: فتنة الناس بالناس باختلاف أحوالهم من فقر وغنى وصحة ومرض وغير ذلك، يقول الله –عز وجل-: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان:20].
ومنها: فتنة الإنسان بالإنسان من جهة أخرى؛ وهي من جهة المدح والذم والتسلط، يقول الله –عز وجل-:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:10].. إلى غير ذلك من الصور الكثيرة للفتن التي يفتن بها العبد في الدنيا، إلا أنّ رأس الفتن وأعظمها الفتن العامة التي تقع لعموم الأمة وتقع في كثيرين منها؛ كفتنة الخروج على ولي الأمر، وفتنة الإفساد الذي تفنَّن فيه الناس اليوم، ومنه ما سُمِّي في هذا الزمان بالإرهاب، وفتنة التكفير والتبديع والتفسيق والتنابذ بالألقاب من غير تحقُّق المقتضى الشرعي للوصف، وكذا فتنة التباغض والتدابر والتهاجر من غير تحقق السبب الشرعي.. إلى غير ذلك من الفتن العام التي كثرت في هذا الزمان والتي تقود إلى الغلو أوالتفريط والتي ما سقط فيها أحد أبدا إلا فسد عيشه وتكدرت نعمته وأظلم قلبه ضاقت نفسه بالناس.
هذه الفتن العامة من أخطأ فيها الطريق ولم يلزم الأصول الشرعية وانغمس فيها لابد أن يحصل له ضيق الصدر بالناس حتى يبلغ به الحال أن ينفر من والديه وأهله وأقاربه وأن ينفر من الناس، ولابد أن تتكدر نعمته، وصدق معاوية –رضي الله عنه- حيث قال: (إياكم والفتنة، فلا تَهمُّوا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال) ذكره الذهبي في السِّيَر.
وصدق حذيفة –رضي الله عنه- حيث قال: (إياكم والفتن، لا يَشخَص لها أحد، والله ما شَخَصَ فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدم) رواه عبد الرزاق الحاكم.
ونبينا –صلى الله عليه وسلم- الشفيق بالأمة أخبرنا عن كثرة وقوع الفتن في هذه الأمة، ومن ذلك ما جاء عن أسامة –رضي الله عنه- قال: أشرف النبي –صلى الله عليه وسلم- على أُطُمٍ من آطام المدينة فقال: ((هل ترَون ما أرى؟ هل ترَون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القَطر)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعَرَض من الدنيا)) رواه البخاري في الصحيح.
وعن حذيفة –رضي الله عنه- قال: (كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يذكر الفتن) وهذا يا إخوة أصل عند أهل العم في تذاكر المسلمين للفتن ليحذروها وليعرفوا الطريق المستقيم الذي تقع به النجاة منها، عمر –رضي الله عنه- يقول لجلسائه وفيهم حذيفة: (أيكم سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال عمر –رضي الله عنه-: لعلكم تَعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ولكن أيكم سمع النبي –صلى الله عليه وسلم- يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ ، هذه الفتن العامة العظيمة، فقال حذيفة –رضي الله عنه-: فأسكت القوم، فقلت: أنا، فقال: أنت بالله أبوك، قال حذيفة: سمعتُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أُشرِبها نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مِرْبَادا كالكوز مُجَخِيّا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكَرا إلا ما أُشرِب من هواه)) والحديث رواه مسلم في الصحيح.
وقد بيّن النبي –صلى الله عليه وسلم- مع بيانه كثرة الفتن: الطريق الواضح والمسلَك المأمون الذي من سار فيه سار على السلامة وكان على خير حال.
وقد اهتم السلف بتقرير هذا الطريق وتبيينه وبيّنوا أنه لا سلامة للأمة ولا سلامة للمؤمن ولا مخرج من الفتن إلا بسلوكه بفضل الله –سبحانه وتعالى-، وهذا ما عنيناه بـ (فقه الفتن).
وهذا الفقه يسلم من حمله وعمل به وتعلَّمه –إن شاء الله- مِن أن يكون سببا في فتنة أو في إيقاع عباد الله فيها، كما يسلم مِن أن يكون مِن أهل الفتن الواقعين فيها، ويسلم مِن أن يُظلِم قلبه بالفتن –والعياذ بالله- وفي الفتن فلا يعرف الصواب فيها بل يكون موقنا موفَّقا لمعرفة الصواب مستنير القلب مستقيم الدرب؛ لأنه سلك طريقا بيّنه النبي –صلى الله عليه وسلم- .
ولذا يا إخوة يقول العلماء: إنّ مِن أشرف العلوم: أن يعلم الإنسان فقه الفتن، كيف يتعامل مع الفتن.
والمعلوم أيها الإخوة أنا نعيش زمنا كثرت فيه الفتن واشتد فيه جهل كثير من الناس بفقه الفتن، مما جعل كثيرا من شبابنا وإخواننا يتساقطون في الفتن ويكونون وقودا لها، وقاد بعض الشباب الذين يُرجى فيهم الخير إلى الوقوع في الفتن وإلى دلالة الناس على الفتن، فأصبح كثير من شبابنا لا يدري أين السلامة ولا يدري في أيّ اتجاه يسير حتى يكون من الغرقى في الفتن، وإن نجا منها فمخدوش. 
ولذا يا إخوة العلم بالفتن وبفقه الفتن علم شريف؛ لأنه يبيّن للمسلم طريق السلامة قبل الوقوع.
ولذلك يقول السلف: "الفتنة إذا أقبلت عرفها العلماء وانغمس فيها الدهماء، وإذا أدبرت عرفها الدهماء"، لماذا؟ لأنّ الفتنة إذا أقبلت تتزيّن، تتزين بالغيرة على الدين، تتزين بقول المعروف، تتزين ويظن بعض الناس أنّ هذا لا يخاف في الله لومة لائم، فتتزين فتغر، فإذا أفسدتْ تكشّفت وهناك يعرفها الدهماء، وهذا ما فسّره مطرِّف بن عبد الله حيث قال: إنّ الفتنة إذا أقبلتْ تشبَّهتْ وإذا أدبرت تبيَّنت"، ويقول الحسن البصري: "إنّ هذه الفتنة إذا أقبلتْ عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل".
ولذلك من العبارات الجميلة لأهل العلم في مسألة الفتنة جملة يسرة ما أجملها وما أعظم ما حملته من معنى يقولون فيها: "إنّ الفتن أولها يَغرّ وقد يَسرّ وآخرها حَنظل مُر"، الفتنة في أولها تغر من لم يعرف فقه الفتن وقد تسره ولكن عاقبتها عليه وعلى مجتمعه وعلى أمته، لابد أن تكون حنظلا مُراّ، ولا يمكن أن تنتج خيرا أبدا.
وأخطر الأمر في هذا يا إخوة أن يشتبه الأمر في الفتن على طلاب العلم الذين يعلِّمون ويخطبون الذين يراد منهم أن يكونوا مشعل نور للأمة أن يكونوا من الذين يدلّون الأمة على الخير.
بعض طلاب العلم قد تشتبه عليه الفتن؛ لعدم رسوخ أقدامهم في العلم، فيتكلمون في الفتن فلا يُصلِحون، بل يفسدون ولا يلتزمون فقه الفتن ولا يرجعون لأهل العلم؛ مما يوقِع كثيرا من الناس ومن العوام في الحيرة إن لم يكردسهم في الفتنة ويكبهم في جحيمها.
والمعلوم أيها الإخوة أنّ الفتنة إنما يهيّجها في العامة صنفان:
-الأول: من قصده حسن لكنه غير فقيه وغير راسخ في العلم، فهو عنده قصد حسن وعنده قلب طيب لكنه ليس عنده رسوخ في العلم.
- والثاني: من قصده سيئ، يريد الشر بالمسلمين.
وقد يستعمل الثاني الأولَ في تحقيق مراده. ولذلك بعض شباب الأمة يستعملهم أعداء الأمة للإفساد على الأمة بحجة الدين وبحجة التديُّن.
وكم رأينا من شبابنا الذين وقعوا في الفتن من صادهم أهل الشر، أنا وجدت بعض الشباب عندما ناصحناهم وعندهم فكر منحرف وجدتُ أنهم استندوا في أول انزلاقهم في الفتنة على تقارير مشبوهة من دول ليست مسلمة في دول مسلمة، قالوا: إنّ الدولة الفلانية ذَكَرَ تقرير الدولة الفلانية أنها أعانت على المسلمين في كذا وأعانت على المسلمين في كذا، وهذه لاشك أنها أمور تُدَس على هؤلاء الشباب في إيقاعهم في الفتنة.
ولذا يا إخوة أحببتُ أن أَذكر شيئا يسيرا من فقه الفتن وأذكر الرسوخ في هذا.
وأعظم أصول الفتن جمعها النبي –صلى الله عليه وسلم- في وصية، وما أعظم الوصية عندما تكون ممن تحب، فكيف إذا كانت الوصية من أعظم من تحب من البشر؟ كيف إذا كانت الوصية ممن تحبه أعظم من محبتك لنفسك والناس أجمعين؟ كيف إذا كانت الوصية ممن تعلم أنه بك رؤوف رحيم –صلى الله عليه وسلم-؟ النبي –صلى الله عليه وسلم- لمّا وَعَظَ الصحابة موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودّع فأوصنا، قال ماذا؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد فإنّ من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)). 
هذه الأصول الثلاثة أعظم أصول فقه الفتن.
-الأصل الأول: تقوى الله.
-والأصل الثاني: السمع والطاعة لمن ولاه الله أمرنا ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم.
-والأصل الثالث: لزوم السنة والحذر من البدعة.
أما الأصل الأول وهو تقوى الله فلا إله إلا الله ما أعظم هذه الكلمة، قليلة المبنى لكنها عظيمة المعنى، ما من خير في الدنيا والآخرة إلا وهو تحت راية التقوى، لكنّ مرادي هنا أيها الإخوة أن أتكلم عن علاقة التقوى بالسلامة من الفتن.
الله –عز وجل- يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق:2] يقول ابن عباس –رضي الله عنهما-: يجعل له مخرجا من كل ضيق في الدنيا والآخرة. فالذي يتق الله على وجه الحقيقة يجعل الله له مخرجا من المضايق، ومن تلك المضايق مضايق الفتن.
وتقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. 
وأضرب لكم مثالا واحدا أُبيّن فيه كيف أنّ تقوى الله –عز وجل- مخرج من الفتن. لنأخذ مثالا فتنة التكفير وإطلاق اللسان في تكفير المسلمين في خاصتهم من الأمراء والحكام والعلماء أو في عموم المسلمين.
المسلم إذا اتقى الله في إخوانه واتقى الله في لسانه يكون ذلك عونا له –بإذن الله- على السلامة من هذه الفتنة العظيمة. فالمسلم إذا سمع إنّ أخاه المسلم -سواء كان حاكما أو فردا من الناس- قال كفرا أو فعل كفرا؛ لا يفرح بهذا الكلام وينشره ويُظهِره بل يتق الله في أخيه، فيتثبَّت أولا هل صدر هذا الفعل من هذا الرجل؟ وهل صدر هذا القول من هذا الرجل؟ ولا يخلو الأمر من ثلاث أحوال:
-إما أن يثبت أنه لم يصدر منه.
-وإما أن يكون محل شك.
-وإما أن يثبت أنه صدر منه.
فإن ثبت أنه لم يصدر منه قال: الحمد لله الذي نجّا أخي من هذا الأمر العظيم، وفرح بهذا.
وإن شك، فالأصل في المسلم الإسلام وعند الشك يعاد إلى الأصل فيقال: الأصل أنه لم يقل ولم يفعل.
طيب إن ثبت أنه قال هذا القول أو هذا الفعل هل يبادر بتكفيره؟ الجواب: لا، بل يتق الله في أخيه وفي دينه هنا، فينظر هل هذا القول عند العلماء مكفِّر؟ وهل هذا الفعل عند العلماء مكفِّر؟ لأنه ليس كل ما قال الناس أنه مكفر يكون مكفرا، بل لابد من الرجوع إلى كلام أهل العلم في المسألة، فإن قال العلماء إنه ليس مكفرا فإنه في هذه الحال يقول: الحمد لله الذي لم يجعل أخي يقع في الكفر، وإن ثبت أنه مكفر هل يسارع بتكفير أخيه؟ لا، بل يتمسك بتقوى الله في أخيه وفي ديانته فينظر هل هذا الفعل المكفر أو القول المكفر الذي صدر منه تجتمع في حقه الشروط وتنتفي الموانع أو لا؟ فإذا وجد أنّ الشروط لا تنطبق عليه وأنّ فيه موانع فإنه يتق الله فيه ولا يكفره، لِمَ؟ لأنّ العلماء يا الإخوة يقولون: فرقٌ بين وَصْف الكفر وبين وَصْف الفاعل بالكفر، قد يوصَف الفعل بالكفر لكن لا يوصَف الفاعل بالكفر؛ لوجود مانع.
ولهذا صور كثيرة، ومن ذلك نذكر شيئا واحدا أو اثنين، من ذلك مثلا: قصة الرجل الذي كان من الأمم التي كانت قبلنا، فظلم نفسه وأسرف على نفسه بالذنوب، ثم لمّا حضرته الوفاة ماذا قال؟ قال لأبنائه: إن أنا مت فحرِّقوني ثم دقوني ثم ذُرّوني في الهواء، لماذا؟ يقول: فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذّبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، يقول: أنا أسرفت على نفسي بالذنوب فأحرقوني فإذا بقي مني شيئا فلا تتركوه بل دقوه ثم ذرُّوه حتى يتفرق، قال: فوالله لئن قدر الله عليّ- كأنه ظن أنّ الله لن يقدر عليه إذا فُعِل به هذا- فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذّبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، فبعثه الله –عز وجل- فسأله عما حمله على هذا؟ فقال: خوفك يا ربي، ذُهِل، فأدخله الله الجنة. ولو كان كافرا ما رأى الجنة قط ولكنه في هذه الحال قال العلماء: غلب الخوف على عقله فلم يدرك حقيقة ما يقول.
ولذلك أذكر لكم الصورة الثانية: قبل تحريم الخمر كان حمزة –رضي الله عنه- مع بعض أصحابه في بيت وشربوا الخمر، وكانت هناك راحلتان لعلي –رضي الله عنه-، ولم يكن في البيت سوى التمر ونحو هذا ولم يكن هنالك لحم، فقال بعض القوم لحمزة: أنأكل من هذا الطعام ورواحلكم عند الباب؟ فذهب حمزة ونحر الراحلة وأطعم القوم، فذهب علي –رضي الله عنه- إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- واشتكى، فجاء النبي –صلى الله عليه وسلم- فدخل على حمزة –رضي الله عنه- ومعه أصحابه وقد ثَمِل وكلمه في الأمر فماذا قال حمزة –رضي الله عنه-؟ قال: وهل أنتم إلا أَعْبُدٌ لأبي؟ يخاطب النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: من أنت حتى تكلمني؟ هل أنت إلا عبد عند أبي؟ هذا سب للنبي –صلى الله عليه وسلم-، قال الراوي: فعلم أنه ثَمِل فتركه وخرج، ولم يرتِّب عليه شيئا –صلى الله عليه وسلم-.
هب أنّ المسلم ثبت عنده أنّ هذا المسلم قال أو فعل وأنّ هذا مكفِّر وظهر له بعينه هو أنّ الشروط مجتمعة والموانع منتفية هل يبادر بتكفيره؟ نقول: لا، تحجزه تقوى الله عن هذا، فيحيل الأمر إلى أهله، يحيل الأمر إلى العلماء ويصدر عن رأي العلماء، ولا يسخر من العلماء ولا يطعن في العلماء ولا يستهزأ بالعلماء بل يحيل الأمر إلى أهله؛ لأنّ هذا الأمر العظيم إنما يعاد إلى أهل العلم.
فهذا مثال لأسلوب تقوى الله –عز وجل- في السلامة من الفتن. فالمؤمن إذا اتقى الله –عز وجل- لا يصدر عن هواه ولا يصدر عن عواطفه وإنما يصدر عن ماذا؟ عن مقتضى الحكم الشرعي.
وأما الأصل الثاني: فهو السمع والطاعة لولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم؛ لأنّ النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، فإنّ من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعَضوا عليها بالنواجذ)).
ولذلك يقول العلماء: من أصول السلامة من الفتن: أن يطيع العبد مَن ولّاه الله أمرَه في غير معصية الله مهما كان حاله"، مادام لم يأمر بمعصية الله، لِمَ؟ لأنّ النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمَر بمعصية فإن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
يا إخوة.. ثبت في الصحيح أنّ رجلا قام للنبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟ ) انظروا كيف السؤال: (أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم) السمع والطاعة (ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟) فأعرض عنه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فسأل الرجلُ ثانية فأعرض عنه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فسأل ثالثة فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا))، ثم جاءت القاعدة التي يستصحبها المسلم فيسلم من الوقوع في الفتن: ((فإنّ عليهم ما حمِّلوا وعليكم ما حمِّلتم))، كل إنسان يشتغل بما حمّله الله إياه.
بعض الناس الذي يقوده للوقوع في الفتن: أنه يشتغل بما لم يُحمَّل، يشتغل بسياسة الدولة، يشتغل بما كلف الله به ولي الأمر، أنت لم يكلفك الله بهذا، ولذلك يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((فإنّ عليهم ما حمِّلوا وعليكم ما حمِّلتم)). 
بل اسمع، ثبت في الصحيح أنّ النبي –صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون فيكم أمراء لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنتي، يقوم فيهم أناس قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس))، رأيتم الوصف هذا يا إخوة؟ هذا الوصف مَن يصفه؟ الرسول –صلى الله عليه وسلم-، (( أمراء لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنتي)) ما بطانتهم؟ ((يقوم فيهم أناس قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس))، فيقول حذيفة –رضي الله عنه-: فما تأمرني يا رسول الله إن أدركتُ هذا؟ فماذا يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضُرِب ظهرك وأُخِذ مالك)) أيّ أمير هذا يا إخوة؟ الذي وصفه النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه لا يهتدي بهداه ولا يستن بسنته وبطانته بطانة سوء. طبعا وهذا مقيّد بما ذكرناه سابقا في الحديث وهو: ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فإنه لا سمع له ولا طاعة في هذه المعصية.
ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم رأس الخير للإنسان، فلا جماعة إلا بإمام والفُرقة رأس الشر.
جاء عن حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- قال: (كان الناس يسألون الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلتُ: يا رسول! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، فقلتُ: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم وفيه دَخَن))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنّون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)) فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) فقلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني هذا؟ -ما هي النجاة؟- قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((تلزم جماعة المؤمنين وإمامهم)) -ما دام أن هناك جماعة قائمة ولو في قطر من الأقطار ولهم إمام تلزم جماعة المسلمين وإمامهم- فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ -يعني لا توجد لهم جماعة مطلقا ولا إمام، ما العمل؟- فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تَعَض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)). 
وهذا ما عمل به السلف الصالح –رضوان الله عليهم-، وسأذكر لكم مثالا واحدا لهذا لضيق الوقت: يقول ابن عمر –رضي الله عنهما-: (خطب معاوية –رضي الله عنه- قال: "مَن كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه -يعني من كان يريد أن يتكلم في أمر الخلافة فليُطلِع لنا قرنه؛ فليتكلم- فلنحن أحق به منه ومن أبيه"، هذا قول معاوية –رضي الله عنه-، قال حبيب بن مَسلَمة لابن عمر –رضي الله عنه وعنهما-: فهلّا أجبته؟ قال عبد الله: فحَللتُ حُبْوَتي وهممتُ أن أقول: أحق بهذا الأمر منك مَن قاتلك وأباك على الإسلام -يعني الجواب يمكن أن يجيب لكن ما الذي منعه؟- قال: فخشيتُ أن أقول كلمة تفرِّق بين الجمع وتسفك الدم ويُحمَل عني غير ذلك فذكرتُ ما أعدّ الله في الجنان، فقال له حبيب: حُفِظتَ وعُصِمت. ما الذي رد ابن عمر –رضي الله عنه – أن يرد على معاوية؟ خشية تفريق الكلمة، فصبر ولم يجب؛ جمعا للكلمة على إمام المسلمين، وجمعا للكلمة على أمير المؤمنين. وهذا فيه كلام طويل للسلف.
ولذا يا إخوة من أصول الفتن: أنّ الفتنة إذا وقعت يلزم الإنسان إمام المسلمين وجماعة المسلمين.
الأصل الثالث الذي بيّنه النبي –صلى الله عليه وسلم-: لزوم السنة والحذر من البدعة. 
فإذا جاءنا أمر أيها الإخوة فلننظر هل هو عتيق؟ هل هو قديم؟ هل كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وتناقله الأخيار بسلسلة من نور؟ أو هو حادث مخالِف للقديم؟ فإن وجدتَه قديما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم – وأصحابه وسلف الأمة: فالزمه؛ فإنّ الخير هناك، وإن وجدته حادثا مبتدعا مخالفا لما كان عليه أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة: فاحذره؛ فإنّ الشر فيه، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- كما سمعنا في الوصية: ((فإنّ من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا))، وكلٌّ يقول: الحق عندي والخير عندي والسلامة عندي هلمّ إليَ، اليوم نرى أناسا متفرقين وكلٌّ يدعو إلى شيء يقول الحق عندي، ما هي السلامة؟ بيّنها النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها)) ثم قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- كلمة عجيبة قال: ((وعَضوا عليها بالنواجذ)) النواجذ: داخلة الأسنان، لِمَ قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((عضوا عليها بالنواجذ))؟ قال العلماء: لتعلم يا عبد أنك إن تمسكت بالسنة فهناك من يجذبك عنها ويريد أن تترك السنة؛ فلا تطعه بل تمسك بها، فالإنسان إذا كان هناك شيء يُسحَب منه يعض عليه بأسنانه حتى لا يؤخَذ منه، ومعنى هذا: أُثبُتْ يا عبد الله على السنة مهما اتُّهِمتْ ومهما حاول المزخرِفون أن يصرفوك عن السنة، هذا ما بيّنه النبي –صلى الله عليه وسلم- ثم قال: ((وإياكم ومحدَثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).
في هذا الباب روى أبو داود أنّ معاذ بن جبل كان لا يجلس مجلسا للذكر حين يجلس إلا قال: (الله حكم قسط، هلك المرتابون، هلك المرتابون)، ثم قال معاذ بن جبل يوما: (إنّ وراءكم فتنًا يكثر فيها الباد، ويُفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: مالِ الناس لا يتبعوني؟) لِمَ لا أكون إماما بين الناس وأنا حافظ للقرآن؟ لِمَ لا أصبح إماما والناس تتبعني؟ هذا معنى قول معاذ –رضي الله عنه- (فيوشك قائل أن يقول: مالِ الناس لا يتبعوني وقد قرأتُ القرآن، ما هم متبعيَّ حتى أبتدع لهم غيره) يعني لن أكون إماما إلا إذا ابتدعتُ لهم شيئا، قال: (فإياكم وما ابتُدِع، فإنّ ما ابتُدِع ضلالة، وأُحذِّركم زَيغة الحكيم فإنّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم). 
ولذا يا إخوة.. يتواصى السلف بلزوم السنة والحذر من البدعة.
هذه الأصول الثلاثة يا إخوة أعظم أصول فقه الفتن على الإطلاق:
1-تقوى الله.
2-لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والسمع والطاعة للإمام في غير معصية الله.
3- ولزوم السنة والحذر من البدعة.
وهذا إنما يكون إذا لزم الإنسان العلم والعلماء وصَدَرَ عن كلام أهل العلم الأثبات، فإنّ العلم الصحيح المبني على كتاب الله وعلى سنة النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه الخير كله.
ولذا الإمام السعدي –رحمه الله- يقول:

اعلم هُدِيتَ أنّ أَفضل المِنَنْ علمٌ يُزيل الشك عنك والدَّرَنْ

اعلم أيها المؤمن أنّ أعظم نعم الله عليك بعد الإسلام: علم، ما فائدة العلم؟ يزيل الشك عنك، فيزيل عنك الشبهات، والدرن: يعني وسخ المعاصي والذنوب.
فينبغي أيها الإخوة أن نلزم هذه الأصول وأن نتفقه فيها.
والباب في الحقيقة واسع وهناك أصول كثيرة قد أخذتها وأعددتها من لسان أهل العلم لكن هذه الأصول التي ذكرتها هي أصول الأصول، والوقت كفى لإيرادها، فلعلي أكتفي بما ذكرته منها.
وأوصي نفسي وإخواني بتقوى الله –عز وجل- وألا نصدر عن العواطف العواصف؛ فإنّ الله ما كلّفنا بهذه العواطف؛ وإنما كلّفنا بما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم-، فنلزم ما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- وإن زخرفت لنا أنفسنا الأمّارة بالسوء غير هذا، وإن زخرف لنا المبطِلون غير هذا، وإن قيل لنا إنّ الخير والحق والنصرة والعزة في غير هذا، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه لا خير ولا نصرة ولا عزة ولا فخر ولا قوة إلا بالتمسك بما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- كما فهمه خير الأمة، وصدق الإمام مالك –رحمه الله- حيث يقول: "إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أَصلح أولها".
أسأل الله –عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمع قلوب المسلمين على الهدى والسنة، وأن يكفيهم شر الفرقة والفتنة، وأن يبارك في هذا الكلام وفي قائله وفي سامعه وفي المكان الذي قيل فيه وفي البلد الذي قيل فيه. 
والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.