قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

ما حكم التوسل؟ للشيخ ابن عثيمين

الجواب: هذا سؤال مهم فنحب أن نبسط الجواب فيه فأقول:
التوسل: مصدر توسل يتوسل، أي اتخذ وسيلة توصله إلى مقصوده، فأصله طلب الوصول إلى الغاية المقصودة
وينقسم التوسل إلى قسمين:
القسم الأول: قسم صحيح، وهو التوسل بالوسيلة الصحيحة الموصلة إلى المطلوب وهو على أنواع نذكر منها:
النوع الأول: التوسل بأسماء الله –تعالى- وذلك على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون ذلك على سبيل العموم ومثاله ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- في دعاء الهم والغم قال: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ...))113 الخ . فهنا توسل بأسماء الله –تعالى- على سبيل العموم ((أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك)) .
الوجه الثاني: أن يكون ذلك على سبيل الخصوص بأن يتوسل الإنسان باسم خاص لحاجة خاصة تناسب هذا الاسم، مثل ما جاء في حديث أبي بكر –رضي الله عنه- حيث طلب من النبي صلى الله عليه وسلم، دعاءً يدعو به في صلاته فقال: ((قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم))114 فطلب المغفرة والرحمة وتوسل إلى الله –تعالى- باسمين من أسمائه مناسبين للمطلوب وهما ((الغفور)) و((الرحيم)) .
وهذا النوع من التوسل داخل في قوله –تعالى-: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )(الأعراف: من الآية180) فإن الدعاء هنا يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة .
النوع الثاني: التوسل إلى الله –تعالى- بصفاته، وهو أيضاً كالتوسل بأسمائه على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون عاماً كأن تقول ((اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا)) ثم تذكر مطلوبك .
الوجه الثاني: أن يكون خاصاً كأن تتوسل إلى الله تعالى بصفة معينة خاصة، لمطلوب خاص، مثل ما جاء في الحديث: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي))115 ، فهنا توسل لله –تعالى- بصفة ((العلم)) و((القدرة)) وهما مناسبان للمطلوب .
ومن ذلك أن يتوسل بصفة فعلية مثل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .
النوع الثالث: أن يتوسل الإنسان إلى الله –عز وجل- بالإيمان به، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول: ((اللهم إني آمنت بك، وبرسولك فاغفر لي أو وفقني))، أو يقول: ((اللهم بإيماني بك وبرسولك أسألك كذا وكذا)) ومنه قوله –تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) (190) (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)(191) إلى قوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (192) )رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) (آل عمران:190، 193) فتوسلوا إلى الله - تعالى- بالإيمان به أن يغفر لهم الذنوب، ويكفر عنهم السيئات ويتوفاهم مع الأبرار .
النوع الرابع: أن يتوسل إلى الله –سبحانه وتعالى- بالعمل الصالح، ومنه قصة النفر الثلاثة الذين أووا إلى غار ليبيتوا فيه فانطبق عليهم الغار بصخرة لا يستطيعون زحزحتها، فتوسل كل منهم إلى الله بعمل صالح فعله، فأحدهم توسل إلى الله –تعالى- ببره بوالديه، والثاني بعفته التامة، والثالث بوفاءه لأجيره، قال كل منهم: ((اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه)) فانفرجت الصخرة، فهذا توسل إلى الله بالعمل الصالح .
النوع الخامس: أن يتوسل إلى الله –تعالى- بذكر حاله، يعني أن الداعي يتوسل إلى الله -تعالى- بذكر حاله وما هو عليه من الحاجة، ومنه قول موسى –عليه الصلاة والسلام-: ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(القصص: من الآية24) يتوسل إلى الله - تعالى- بذكر حاله أن ينزل إليه الخير . ويقرب من ذلك قول زكريا - عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً) (مريم:4) فهذه أنواع من التوسل كلها جائزة لأنها أسباب صالحة لحصول المقصود بالتوسل بها .
النوع السادس: التوسل إلى الله –عز وجل- بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابته، فإن الصحابة - رضي الله عنهم- كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، أن يدعو الله لهم بدعاء عام، ودعاء خاص ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: ((اللهم أغثنا)) ثلاث مرات فما نزل من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته، وبقي المطر أسبوعاً كاملاً . وفي الجمعة الأخرى جاء ذلك الرجل أو غيره والنبي صلى الله عليه وسلم، يخطب الناس فقال: يا رسول الله غرق الماء، وتهدم البناء فادع الله أن يمسكها عنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: ((اللهم حوالينا لا علينا)) فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، حتى خرج الناس يمشون في الشمس116 . وهناك عدة وقائع سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم على وجه الخصوص، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن في أمته سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون ،ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: ((أنت منهم))117 فهذا أيضاً من التوسل الجائز وهو أن يطلب الإنسان من شخص ترجى إجابته أن يدعو الله –تعالى- له، إلا أن الذي ينبغي أن يكون السائل يريد بذلك نفع نفسه، ونفع أخيه الذي طلب منه الدعاء، حتى لا يتمحض السؤال لنفسه خاصة، لأنك إذا أردت نفع أخيك ونفع نفسك صار في هذا إحسان إليه، فإن الإنسان إذا دعا لأخيه في ظهر الغيب قال الملك: "آمين ولك بمثل" وهو كذلك يكون من المحسنين بهذا الدعاء والله يحب المحسنين .
القسم الثاني:- التوسل غير الصحيح وهو:
أن يتوسل الإنسان إلى الله –تعالى- بما ليس بوسيلة، أي بما لم يثبت في الشرع أنه وسيلة،لأن التوسل بمثل ذلك من اللغو والباطل المخالف للمعقول، والمنقول، ومن ذلك أن يتوسل الإنسان إلى الله –تعالى- بدعاء ميت يطلب من هذا الميت أن يدعو الله له، لأن هذا ليس وسيلة شرعية صحيحة، بل من سفه الإنسان أن يطلب من الميت أن يدعو الله له، لأن الميت إذا مات انقطع عمله، ولا يمكن لأحد أن يدعو لأحد بعد موته، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يدعو لأحد بعد موته، ولهذا لم يتوسل الصحابة –رضي الله عنهم- إلى الله بطلب الدعاء من رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد موته، فإن الناس لما أصابهم الجدب في عهد عمر –رضي الله عنه- قال: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا))118 فقام العباس –رضي الله عنه- فدعا الله –تعالى- . ولو كان طلب الدعاء من الميت سائغاً ووسيلة صحيحة لكان عمر ومن معه من الصحابة يطلبون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن إجابة دعاءه صلى الله عليه وسلم، أقرب من إجابة دعاء العباس –رضي الله عنه- فالمهم أن التوسل إلى الله –تعالى- بطلب الدعاء من ميت توسل باطل لا يحل ولا يجوز .
ومن التوسل الذي ليس بصحيح: أن يتوسل الإنسان بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جاه الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس مفيداً بالنسبة إلى الداعي، لأنه لا يفيد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة للداعي فليس بمفيد حتى يتوسل إلى الله به، وقد تقدم أن التوسل اتخاذ الوسيلة الصالحة التي تثمر . فما فائدتك أنت من كون الرسول صلى الله عليه وسلم، له جاه عند الله؟! وإذا أردت أن تتوسل إلى الله على وجه صحيح فقل اللهم بإيماني بك وبرسولك، أو بمحبتي لرسولك وما أشبه ذلك فإن هذا الوسيلة الصحيحة النافعة .