قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

منهج أهل السنة عند الفتن (1): تعريف الفتنة والتحذير منها.

منهج أهل السنة عند الفتن (1): تعريف الفتنة والتحذير منها.

 

المقدمة:

الحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي بعثه ربه هاديًا، ومبشرًا، ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا.

أما بعد:

فإن الحياة الدنيا مملوءة بالفتن، وقد حذَّرنا الله - تعالى - في كتابه، وكذلك نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - في سنته المباركة، من الفتن.

من أجل ذلك، قمتُ بإعداد هذه الرسالة (التي تأتيكم على ثلاث حلقات كاملة)؛ تذكيرًا لنفسي ولإخواني الكرام بمنهج أهل السنة عند الفتن، وقد تناولتُ الحديث فيها عن معنى الفتنة، والفرق بين الفتنة والابتلاء والاختبار، وأن الفتنة تكون من الله - تعالى - ومن الإنسان، كما تناولتُ الحديث عن نعمة الأمن، والتحذير من الفتن في القرآن والسنة، ووصية نبينا - صلى الله عليه وسلم - للمسلم عند الفتن، والفرار من الفتن خوفًا على الدين، وأن الصالحين يتمنَّون الموت عند الفتن خوفًا على دينهم، ويصبرون على ظلم ولاة الأمور ولا يخرجون عليهم، وقد ذكرتُ أقوال علماء أهل السنة والجماعة في ذلك، وتحدثتُ عن خطورة الفتن وأضرارها، ثم ختمتُ الرسالة بالحديث عن موقف المسلم، وما ينبغي عليه عمله عند حدوث الفتن.

أسأل الله - تعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل هذا العمل، وأن ينفع به طلاب العلم.

معنى الفتنة:

الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب، إذا أذبتهما بالنار؛ ليتميز الرديء من الجيِّد[1]. 

الفرق بين الفتنة والابتلاء والاختبار:

أولاً: الفرق بين الفتنة والاختبار:

الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، وأصله: عرضُ الذهب على النار؛ ليتبين صلاحه من فساده، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [الذاريات: 13].

وتكون في الخير والشر، ألا تسمع قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]. 

وقال - تعالى -: ﴿ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ [الجن: 16، 17]. 

فجعل النعمة فتنة؛ لأنه قصد بها المبالغة في اختبار المنعَم عليه بها؛ كالذهب إذا أريد المبالغة في تعرف حاله، أُدخِل النار. 

والله - تعالى - لا يختبر العبد لتغيير حاله في الخير والشر، وإنما المراد بذلك شدة التكليف[2]. 

ثانيًا: الفرق بين الابتلاء والاختبار:

الابتلاء لا يكون إلا بتحمل المكاره والمشاقِّ. 

والاختبار يكون بذلك وبفعل المحبوب، ألا ترى أنه يقال: اختبره بالإنعام عليه، ولا يقال: ابتلاه بذلك، ولا هو مبتلى بالنعمة، كما قد يقال: إنه مختبر بها، ويجوز أن يقال: إن الابتلاء يقتضي استخراج ما عند المبتلَى من الطاعة والمعصية، والاختبار يقتضي وقوع الخبر بحاله في ذلك[3]. 

الفتنة تكون من الله - تعالى - ومن الإنسان:

قال الراغب الأصبهاني: الفتنة من الأفعال التي تكون من الله - تعالى - ومن العبد؛ كالبلية، والمصيبة، والقتل، والعذاب، وغير ذلك من الأفعال الكريهة، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإنسان بغير أمر الله يكون بضد ذلك - أي: ضد الحكمة الإلهية - ولهذا يذمُّ الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان؛ نحو قوله: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 191]. 

وقوله - سبحانه -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [البروج: 10]. 

وقوله - تعالى -: ﴿ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾ [الصافات: 162]؛ أي: بمضلين[4]. 

نعمة الأمن في البلاد:

قال الله - تعالى -: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]. 

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: "هذا مثلٌ أُريد به أهل مكة؛ فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يُتَخطَّف الناس من حولها، ومَن دخلها آمنٌ لا يخاف؛ كما قال - تعالى-: ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ﴾ [القصص: 57]. 

وهكذا قال ها هنا: ﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا ﴾؛ أي: هنيئًا سهلاً. 

﴿ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ﴾؛ أي: جحدت آلاءَ الله عليها، وأعظم ذلك بِعثة محمد - صلى الله عليه وسلم؛ كما قال -تعالى-: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ [إبراهيم: 28، 29]. 

ولهذا بدَّلهم الله بحاليهم الأوَّلينِ خلافَهما، فقال: ﴿ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾؛ أي: ألبسها، وأذاقها الجوع بعد أن كان يُجبَى إليهم ثمراتُ كلِّ شيء، ويأتيها رزقها رغَدًا من كل مكان؛ وذلك لما استعصوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبَوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع سنوات قاسية كسبع يوسف، فأصابتهم سنة "شدة"، أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا "العِلْهِز"؛ وهو: وبر البعير، يجعل بدمه إذا نحروه. 

وقوله: ﴿ وَالْخَوْفِ ﴾؛ وذلك بأنهم بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة، من سطوة سراياه وجيوشه، وجعلوا كل ما لهم في سَفَال ودمار، حتى فتحها الله عليهم، وذلك بسبب صنيعهم، وبغيهم، وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتنَّ به عليهم في قوله: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: 164]. 

وقال - تعالى -: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [الطلاق: 10، 11]. 

وقوله: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 151، 152]. 

وكما أنه انعكس على الكافرين حالُهم، فخافوا بَعد الأمن، وجاعوا بعد الرَّغَد، بدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنًا، ورزقهم بعد العَيلة "الفقر"، وجعلهم أُمراء الناس، وحكَّامهم، وسادتهم، وقادتهم، وأئمتهم[5]. 

وقال - سبحانه -: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴾ [الأنفال: 9 - 11]. 

قال ابن كثير - رحمه الله -: "يذكِّرهم الله بما أنعم به عليهم من إلقائه النُّعاس عليهم؛ أمانًا من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم، وذلك في (غزوة بدر)"[6]. 

وقال - جل شأنه -: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4]. 

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴾؛ أي: لائتلافهم، واجتماعهم في بلدهم آمنين، وقيل: المراد بذلك ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم؛ لعظمتهم عند الناس؛ لكونهم سكَّانَ حرم الله، فمَن عَرَفهم احترمهم، بل مَن وادعهم، وسار معهم أمِنَ بهم، هذا حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم وصيفهم. 

وأما في حال إقامتهم في البلد، فكما قال الله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]. 

روى الترمذي عن عبيد الله بن محصن الخَطْمي - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سِربه - في نفسه وأهل بيته - معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه؛ فكأنما حِيزت - جُمِعت - له الدنيا))[7]. 

اعلم - أخي المسلم - أن نعمة الأمن تتوقف على عبادة الله - تعالى - وحده، وأداء ما افترضه علينا على الوجه الأكمل، واجتناب المعاصي. 

قال - جل شأنه -: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 55، 56]. 

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: هذا وعد من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض؛ أي: أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليُبْدَلُنَّ بعد خوفهم من الناس أمنًا وحُكمًا فيهم، وقد فعل - تبارك وتعالى - ذلك، وله الحمد والمنة؛ فإنه لم يَمُت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى فتح الله عليه مكة، وخيبر، والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هَجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية (وهو المقوقس)، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة[8]. 

التحذير من الفتن في القرآن:

1- قال الله - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]. 

قال ابن كثير - رحمه الله -: "يحذِّر - تعالى - عباده المؤمنين (فتنةً)؛ أي: اختبارًا ومحنة، يعمُّ بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي، ولا مَن باشَرَ الذنب، بل يعمُّهما[9]. 

2- وقال - سبحانه -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20]. 

3- وقال - جل شأنه -: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]. 

4- وقال - تعالى -: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]. 

5- وقال - سبحانه -: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 15، 16]. 

نبينا - صلى الله عليه وسلم - يحذِّرنا من الفتن:

1- روى مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يُصبِح الرجل مؤمنًا، ويُمسِي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا))[10]. 

قال الإمام النووي - رحمه الله -: "معنى الحديث: الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذُّرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة، المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف - صلى الله عليه وسلم - نوعًا من شدائد تلك الفتن، وهو أنه يمسي مؤمنًا ثم يصبح كافرًا، وهذا لعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب"[11]. 

2- روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، ليأتينَّ على الناس زمانٌ، لا يدري القاتل في أي شيء قَتَل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتِل)) [12]. 

3- روى الشيخان عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء))[13]. 

4- روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تشهّد أحدكم، فليَستَعِذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المَحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال))[14]. 

5- روى الترمذي عن كعب بن عياض، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن لكل أمة فتنةً، وفتنةُ أمتي المال))[15]. 

6- روى أبو داود عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسِّروا قِسِيَّكم - جمع قوس - وقطِّعوا أوتارَكم، واضربوا سيوفَكم بالحجارة؛ فإن دُخِل - يعني على أحد منكم - فليكن كخير ابْنَيْ آدم))[16]. 

قال شمس الحق العظيم أبادي - رحمه الله -: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي))؛ أي: كلما بَعُد الشخص عنها وعن أهلها، كان خيرًا له من قربها واختلاط أهلها؛ لِما سيؤول أمرُها إلى محاربة أهلها. 

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واضربوا سيوفَكم بالحجارة))؛ أي: حتى تنكسر، أو حتى تذهب حدَّتُها، وعلى هذا القياس الرماحُ وسائر السلاح. 

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فليكن كخير ابنَي آدم))؛ أي: فليستسلم أحدكم حتى يكون قتيلاً كهابيل، ولا يكون قاتلاً كقابيل"[17]. 

نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذ من الفتن:

روى الشيخان عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم))، فقال له قائل: ما أكثرَ ما تستعيذ من المَغْرم! فقال: ((إن الرجل إذا غَرِم حدَّث فكذَب، ووعد فأخلف))[18]. 

وصية نبينا - صلى الله عليه وسلم - للمسلم عند الفتن:

روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستكون فتنٌ، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، مَن تشرَّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو مَعاذًا فليَعُذْ به))[19]. 

• تشرَّف لها: تطلَّع لها، بأن يتصدى ويتعرَّض لها، ولا يُعرِض عنها.

• تستشرفه؛ أي: تهلكْه، بأن يشرف منها على الهلاك.

• فليعذْ به؛ أي: ليعتزل فيه، ليسلَم من شر الفتنة[20]. 

قال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: "في هذا الحديث التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتنة: ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك؛ حيث لا يُعلَم المحق من الـمُبطِل"[21]. 

الفرار من الفتن خوفًا على الدين:

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُوشِك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبع بها شَعَفَ - رؤوس - الجبال ومواقع القَطْرِ - المطر - يفر بدينه من الفتن))[22]. 

قال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: "هذا الحديث يدل على فضيلة العُزْلَة لمن خاف على دينه"[23]. 

وقال ابن حجر أيضًا: "إن وقعت الفتنة ترجَّحت العزلة؛ لِما ينشأ فيها غالبًا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة، فتعم مَن ليس من أهلها؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]" [24]. 

الصالحون يتمنَّون الموت عند الفتن خوفًا على دينهم:

روى الشيخان عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى يمرَّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه))؛ أي: "كنت ميتًا"[25]. 

قال ابن بطَّال - رحمه الله -: "تغبُّط أهل القبور، وتمنِّي الموت عند ظهور الفتن، إنما هو خوف ذَهاب الدين بغلبة الباطل وأهله، وظهور المعاصي والمنكر"؛ انتهى. 

وليس هذا عامًّا في حق كل أحد، وإنما هو خاص بأهل الخير، وأما غيرهم، فقد يكون لِما يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه، وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه"[26]. 

روى أحمد عن محمود بن لبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموتُ خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلةَ المال، وقلة المال أقل للحساب))[27]. 

روى الترمذي عن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني الليلة ربي - تبارك وتعالى - في أحسن صورة - قال: أحسبه قال: في المنام - فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفيَّ حتى وجدت بَرْدَها بين ثَدْيَيَّ، أو قال في نحري، فعلمت ما في السموات وما في الأرض، قال: يا محمد، هل تدري فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلتُ: نعم، قال: في الكفَّارات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومَن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمُّه، وقال: يا محمد إذا صلَّيتَ، فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجاتُ: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام))[28]. 


[1] (لسان العرب لابن منظور؛ جـ5 صـ3344).

[2] (الفروق في اللغة؛ لأبي هلال العسكري، صـ272).

[3] الفروق في اللغة؛ لأبي هلال العسكري، صـ4).

[4] (المفردات في غريب القرآن؛ للراغب الأصبهاني صـ56).

[5] (تفسير ابن كثير؛ جـ 8 صـ 361: 362).

[6] (تفسير ابن كثير؛ ج 7 ص :29) .

[7] (حديث حسن؛ صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 1913).

[8] (تفسير ابن كثير؛ ج 10 ص : 263).

[9] (تفسير ابن كثير؛ ج 7 ص : 49).

[10] (مسلم، حديث: 118).

[11] (مسلم بشرح النووي، ج 1 ص 41).

[12] (مسلم، حديث: 2908).

[13] (البخاري، حديث: 5096، مسلم حديث: 2740).

[14] (مسلم، حديث: 588).

[15] (حديث صحيح؛ صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 1905).

[16] (حديث صحيح؛ صحيح سنن أبي داود للألباني، حديث: 3582).

[17] عون المعبود شرح سنن أبي داود، ج 11 ص 227).

[18] (البخاري، حديث: 832، مسلم، حديث:589).

[19] (البخاري، حديث: 7081، مسلم، حديث: 2886).

[20] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13 ص 34).

[21] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13 ص 34).

[22] (البخاري، حديث: 7088).

[23] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13 ص 46).

[24] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج 13 ص 47).

[25] (البخاري حديث: 7115/ مسلم كتاب الفتن: حديث: 53).

[26] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13 ص 81).

[27] (حديث صحيح؛ مسند أحمد، ج 39 ص 36، حديث:23625)؛ السلسلة الصحيحة للألباني، ج 2ص 452، حديث: 813).

[28] (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني حديث: 2582).

 

- منقول من شبكة الألوكة -