قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

منهج أهل السنة عند الفتن (2): الصبر على ظلم ولاة الأمور وعدم الخروج عليهم.

منهج أهل السنة عند الفتن (2): الصبر على ظلم ولاة الأمور وعدم الخروج عليهم.

 

تعريف البغاة الخارجين على الحاكم:

"جماعة كثيرة من الناس فيهم قائد مطاع، ولهم قوة ومعهم سلاح، يتحصَّنون في مكان ما، يخرجون على الحاكم المسلم، ويريدون عزله، بسبب تأويلٍ يعتقدون به جواز الخروج عليه، ويحتاج الحاكم في التصدي لهم إلى جمع الجيش"[1].

الأدلة الصحيحة والصريحة في وجوب الصبر على ظلم الولاة وعدم جواز الخروج عليهم:

1- روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون بعدي أَثَرَة  - الاختصاص بحظ دنيوي - وأمورًا تُنكِرونها))، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: ((أدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلُوا الله حقكم))[2].

قال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أدُّوا إليهم حقَّهم))؛ أي: بذل المال الواجب في الزكاة والنفس، في الخروج إلى الجهاد عند التعيين، ونحو ذلك، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وسلوا اللهَ حقَّكم))؛ أي: بأن يُلهمَهم إنصافكم، أو يبدلكم خيرًا منهم" [3].

2- روى مسلم عن وائل الحضرمي، قال: سأل سلمةُ بن يزيد الجعفي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، أرأيتَ إن قامت علينا أمراء يسألونا حقَّهم ويمنعونا حقَّنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حمِّلوا، وعليكم ما حمِّلتم))[4].

3- روى الشيخان عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن رأى من أميره شيئًا يكرهه فليَصبِر عليه؛ فإنه مَن فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات مِيتة جاهلية))[5].

قال ابن بطَّال - رحمه الله -: "في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار"؛ أي: ظَلم[6].

وقال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: "أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعتَه خيرٌ من الخروج عليه؛ لِما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدَّهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفرُ الصريح، فلا تجوز طاعتُه في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها"[7].

قال ابن رجب الحنبلي: - رحمه الله -: "وأما الخروج على الحكام بالسيف فيُخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين"[8].

4- روى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه ستكون هَنَاتٌ - فتن، وشدائد، وأمور عظام - وهَنَاتٌ، فمَن أراد أن يفرِّق أمر هذه الأمَّة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنًا من كان))[9].

قال الإمام النووي - رحمه الله -: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن أراد أن يفرِّقَ أمر هذه الأمَّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان))، فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، ويُنهَى عن ذلك، فإن لم ينتهِ قُوتل، وإن لم يندفع شرُّه إلا بقتله قُتِل"[10].

5- روى مسلم عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنه يُستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم - أي مَن كَرِه بقلبه وأنكر بقلبه - ولكن مَن رضي وتابع))، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: ((لا، ما صلَّوا))[11].

قال الإمام النووي - رحمه الله -: "قوله: ((ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلَّوا))، فيه أنه لا يجوز الخروجُ على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق، ما لم يغيروا شيئًا من قواعد الإسلام[12].

6- روى مسلم عن عوف بن مالك، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خِيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلُّون عليكم - يدعون لكم - وتصلُّون عليهم - تدعون لهم بالتوفيق والصلاح - وشرار أئمتكم الذين تُبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم))، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه، فاكرهوا عمله ولا تَنْزِعوا يدًا من طاعة))[13].

7- روى الشيخان عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركَني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلتُ: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَن)) - فساد في القلوب - قلتُ: وما دَخَنه؟ قال: ((قوم يَهدون بغير هَدْيِي، تعرف منهم وتنكر))، قلتُ: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلتُ: يا رسول الله، صِفْهم لنا، قال: ((هم من جِلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلتُ: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعةَ المسلمين وإمامَهم)). قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرقَ كلَّها، ولو أن تعَضَّ بأصل شجرة، حتى يدركَك الموتُ وأنت على ذلك))[14].

قال الإمام النووي - رحمه الله -: قوله: ((دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قال العلماء: هؤلاء مَن كان من الأمراء يدعو إلى بدعة، أو ضلال آخر؛ كالخوارج، والقرامطة، وأصحاب المحنة.

وفي حديث حذيفة هذا لزومُ جماعة المسلمين، وإمامهم، ووجوبُ طاعته وإن فسق وعمِل المعاصي؛ مِن أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعتُه في غير معصية"[15].

قال ابن حجر - رحمه الله -: "قوله - صلى الله عليه وسلم - ((تعَضّ بأصل شجرة))، كناية عن لزوم جماعة المسلمين، وطاعة سلاطينهم ولو عصَوا"[16].

قال البيضاوي - رحمه الله -: "قوله: ((فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تعَضَّ بأصل شجرة))؛ المعنى: إذا لم يكن في الأرض خليفة، فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان، وعض أصل الشجرة، كناية عن مكابدة المشقة[17].

8- روى الشيخان عن عُبادة بن الصامت، قال: دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في مَنْشَطِنا ومكرهنا، وعُسْرنا ويُسرنا، وأَثَرَة علينا، وألا ننازعَ الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا - ظاهرًا - عندكم من الله فيه برهان))[18].

فائدة هامة:

قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عندكم من الله فيه برهان))؛ أي: نص آية من القرآن، أو حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتمل التأويل.

♦ ♦ ♦ ♦

أقوال علماء أهل السنة والجماعة:

1-  الإمام النووي (وفاته: 676هـ): قال النووي - رحمه الله -: "لا تنازعوا ولاةَ الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكِروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم؛ فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فَسَقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديثُ بمعنى ما ذكرتُه، وأجمع أهل السنَّة أنه لا ينعزل السلطان، قال العلماء: وسبب عدم انعزاله، وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقةِ الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثرَ منها في بقائه"[19].

2- القاضي عِياض (وفاته: 544هـ): قال القاضي عياض - رحمه الله -: "قال جماهيرُ أهل السنَّة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين: لا ينعزل السلطان بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يُخلع، ولا يجوز الخروجُ عليه بذلك، بل يجب وعظُه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة"[20].

3- الإمام الحسن البصري: (وفاته: 110هـ): روى ابن سعد عن أبي التيَّاح قال: كان الحسن البصري ينهى عن الخروج على الحجَّاج بن يوسف الثقفي، ويأمر بالكف عنه[21].

وروى ابن سعد عن عمرو بن يزيد العبدي، قال: سمعت الحسن البصري يقول: "لو أن الناس إذا ابتُلُوا من قِبَل سلطانهم صبروا، ما لَبِثوا أن يُفَرَّج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكَلون إليه، فوالله ما جاؤوا بيوم خير قط"[22].

4- الإمام علي بن المديني (وفاته: 234هـ): قال الإمام علي بن المَدِيني - رحمه الله -: "السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين -  البَر والفاجر، ومَن ولي الخلافة - بإجماع الناس ورضاهم، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يَبِيت ليلة إلا وعليه إمام؛ برًّا كان أو فاجرًا، فهو أمير المؤمنين، والغزو مع الأمراء ماضٍ إلى يوم القيامة، البَرِّ والفاجر، لا يترك، وقسمةُ الفيء وإقامة الحدود للأئمة ماضيةٌ ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعَهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة، قد برئ مَن دفعها إليهم، وأجزأت عنه، برًّا كان أو فاجرًا، وصلاة الجمعة خلفه وخلف مَن ولاَّه جائزةٌ قائمة ركعتان، مَن أعادها فهو مبتدِع، تاركٌ للإيمان مخالف، وليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم يرَ الجمعة خلف الأئمة من كانوا، برهم وفاجرهم، والسنَّة أن يصلوا خلفهم، لا يكون في صدره حرجٌ من ذلك.

ومَن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد اجتمع عليه الناس فأقرُّوا له بالخلافة بأي وجه كانت، برضًا أو بغلبة - فهو شاقٌّ، هذا الخارج عليه العصا، وخالف الآثارَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن مات الخارجُ عليه مات ميتة جاهلية.

ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن عمل ذلك فهو مبتدع، على غير السنَّة"[23].

5- الإمام أحمد بن حنبل (وفاته: 241هـ): قال الخلاَّل: أخبرني محمد بن أبي هارون، ومحمد بن جعفر، أن أبا الحارث حدَّثهم، قال: سألتُ أبا عبدالله - أحمد بن حنبل - في أمرٍ كان حدث ببغداد، وهمَّ قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبدالله، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: "سبحان الله! الدماءَ الدماءَ، لا أرى ذلك، ولا آمُرُ به، الصبر على ما نحن فيه خيرٌ من الفتنة، يسفك فيها الدماء، وتستباح فيها الأموال، وتنتهك فيها المحارم، أما علمتَ ما كان الناس فيه؟ يعني: أيام الفتنة، قلتُ: والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبدالله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمَّت الفتنةُ، وانقطعت السبل، الصبرَ على هذا، ويسلَمُ لك دينُك خيرٌ لك"، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: الدماء لا أرى ذلك، ولا آمر به"[24].

قال الخلاَّل:

أخبرني علي بن عيسى، قال: سمعت حنبلاً يقول في ولاية الواثق: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبدالله  - أحمد بن حنبل -: أبو بكر بن عبيد، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، فجاؤوا إلى أبي عبدالله، فاستأذنت لهم، فقالوا: يا أبا عبدالله، هذا الأمر قد تفاقم وفشا، يعنون إظهارَه لخلْق القرآن، وغير ذلك، فقال لهم أبو عبدالله: فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورَك في أنَّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم أبو عبدالله ساعة، وقال لهم: عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقُّوا عصا المسلمين، ولا تَسفكوا دماءكم"[25].

6- الإمام أبو زُرْعة الرازي (وفاته: 264 هـ): قال أبو زُرعة الرازي - رحمه الله -: "لا نكفِّر أهل القبلة بذنوبهم، ونَكِل أسرارهم إلى الله - عز وجل - ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهرٍ وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاَّه الله - عز وجل - أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعة، نتَّبعُ السنَّةَ والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفُرْقة.

وأنَّ الجهاد ماضٍ منذ بعث الله - عز وجل - نبيه - عليه الصلاة والسلام - إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين، لا يُبطله شيء"[26].

7- الإمام سفيان الثوري (وفاته: 161 هـ): قال الثوري - رحمه الله -: "الصلاة خلف كل بَرٍّ وفاجر، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان، جَارَ أم عدل"[27].

8- الإمام أبو الحسن الأشعري (وفاته: 324 هـ): قال الإمام أبو الحسن الأشعري - رحمه الله -: "وأجمع علماء أهل السنَّة على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كلَّ مَن وَلِي شيئًا من أمورهم عن رضا، أو غلبة، وامتدت طاعته من برٍّ وفاجر؛ لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جارَ - ظَلَم - أو عدل، وعلى أن يُغْزَى معهم العدوُّ، ويُحَجَّ معهم البيت، وتُدْفَعَ إليهم الصدقات إذا طلبوها، ويُصلَّى خلفهم الجُمَعُ والأعياد"[28].

قال الإمام أبو الحسن الأشعري أيضًا عن اعتقاد أهل السنة:

"ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة"[29].

9- الإمام محمد بن أحمد بن إسحاق (وفاته: 378 هـ): قال الإمام محمد بن أحمد بن إسحاق "الحاكم أبو أحمد" - رحمه الله -: "لا نخرج على الأمراء بالسيف وإن حاربوا، ونبرأ من كل مَن يرى السيفَ على المسلمين كائنًا من كان"[30].

10- الإمام ابن النحاس (وفاته: 814 هـ): قال الإمام ابن النحَّاس - رحمه الله -: "ليس لأحدٍ أن يمنع السلطانَ بالقهر باليد، ولا أن يُشهِر عليه سلاحًا، أو يجمع له أعوانًا؛ لأن ذلك تحريك للفتن، وتهييج للشر، وإذهاب لهيبة السلطان من قلوب الرعية، وربما أدَّى ذلك إلى تجرُّئِهم على الخروج عليه وتخريب البلاد"[31].

11- الإمام الطحاوي (وفاته: 321 هـ): قال الإمام الطحاوي - رحمه الله -: "لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة"[32].

12- الإمام ابن أبي العز الحنفي (وفاته: 792 هـ): قال الإمام أبو العز الحنفي - رحمه الله -: "وأما وَلِيُّ الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يُطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله، وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا؛ فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعافُ ما يحصل من جَوْرهم، بل في الصبر على جَوْرهم تكفيرُ السيئات، ومضاعفة الأجور؛ فإن الله - تعالى - ما سلَّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل؛ فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة وإصلاح العمل".

قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

وقال - سبحانه -: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165].

وقال - تعالى -: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79].

وقال - سبحانه -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 129].

فإذا أراد الرعية أن يتخلَّصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم"[33].

13- الإمام أبو عثمان الصابوني (وفاته:544 هـ): قال أبو عثمان الصابوني - رحمه الله -: "يرى أصحاب الحديث الجمعةَ والعيدين وغيرَهما من الصلوات خلفَ كلِّ إمام مسلم، برًّا كان أو فاجرًا، ويرَوْن جهاد الكفرة معهم، وإن كانوا جَوَرة فَجَرة، ويرون الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجَوْر والحيف، ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل"[34].

14- الإمام ابن تيمية (وفاته: 728 هـ): قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: "لا يجوز إنكارُ المنكَر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حُرِّم الخروجُ على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنَّ ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب، أعظمُ مما يحصل بفعلهم المنكرَ والذنوب، وإذا كان قومٌ على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شرٌّ أعظمُ مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعُهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة؛ لم يُنْهَوْا عنه"[35].

وقال ابن تيمية أيضًا: "المشهور من مذهب أهل السنة، أنهم لا يرون الخروجَ على الأئمة وقتالَهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم؛ كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الفساد في القتال والفتنة أعظمُ من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يُدفع أعظمُ الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته"[36].

وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "كان أفاضل المسلمين يَنْهَون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وغيرهم، يَنْهَون عن الخروج على يزيدَ بن معاوية، وكما كان الحسن البصري، ومجاهد بن جبر، وغيرهما يَنْهَون عن الخروج في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث؛ ولهذا استقرَّ أمرُ أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكُرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جَوْر الأئمة، وترك قتالهم"[37].

وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "الفتنة إذا وقعت عجَز العقلاءُ فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن، كما قال - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].

وإذا وقعت الفتنةُ لم يسلَم من التلوُّث بها إلا مَن عصمه الله"[38].

15- الإمام ابن القيم (وفاته: 751 هـ): قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَرَع لأمته إيجابَ إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبُّه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكرُ منه، وأبغضُ إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يسوغ إنكارُه، وإن كان الله يُبغضه ويَمقت أهلَه، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كلِّ شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في قتال الأمراء الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة))، وقال  - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن رأى من أميره ما يكرهه فليصبِرْ، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعةٍ))[39].

16- الإمام الشوكاني (وفاته: 1250 هـ): قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: "ينبغي لمن ظهر له غلَطُ الإمام في بعض المسائل أن يناصحَه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده، ويخلو به، ويبذل له النصيحة، ولا يُذِل سلطان الله، ولا يجوز الخروجُ على الأئمة، وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ، ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفرُ البواح، والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله، ويعصيَه في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"[40].


[1] (روضة الطالبين للنووي، ج 10 ص 50؛ المغني لابن قدامة، ج 12 ص 242).

[2] (البخاري حديث: 7052؛ مسلم حديث: 1843).

[3] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13 ص 8).

[4] (مسلم، حديث: 1846).

[5] (البخاري، حديث: 7054، مسلم حديث: 1849).

[6] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13ص 9).

[7] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13ص 9).

[8] (جامع العلوم والحكم لابن رجب، ج 3 ص 955).

[9] (مسلم، حديث: 1852).

[10] (مسلم بشرح النووي، ج 6 ص 484).

[11] (مسلم، حديث: 1854).

[12] (مسلم بشرح النووي، ج 6 ص 486).

[13] مسلم، حديث:1855).

[14] (البخاري حديث: 7084/ مسلم حديث: 1847).

[15] (مسلم بشرح النووي، ج 6 ص 482).

[16] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13 ص 40).

[17] (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج 13 ص 40).

[18] (البخاري حديث 7055، مسلم - كتاب الإمارة: حديث 42).

[19] (مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 229).

[20] (مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 229).

[21] (الطبقات الكبرى لابن سعد، ج 7 ص: 164).

[22] الطبقات الكبرى لابن سعد، ج 7 ص 164: 165).

[23] (شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، ج 1 ص 188: 189).

[24] (السنة لأبي بكر الخلال، ج 1 ص 132: 133 رقم 89).

[25] (السنة لأبي بكر الخلال، ج 1 ص 132 رقم 90).

[26] (شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، ج 1ص 199).

[27] (شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، ج 1 ص 173).

[28] (رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري، ص 297: 298).

[29] (مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، ج 1 ص 295).

[30] (شعار أصحاب الحديث لمحمد بن إسحاق، ص 31).

[31] (الموازين لابن النحاس، ص 43).

[32] (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي  العز الحنفي، ج 2 ص 132).

[33] (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي  العز الحنفي ج 2 ص 135).

[34] (عقيدة السلف أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني 4-294).

[35] (مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 472).

[36] (منهاج السنة النبوية، ج 3 ص 391).

[37] (منهاج السنة النبوية، ج 4 ص 315: 316).

[38] (منهاج السنة النبوية ج 4 ص 343).

[39] (أعلام الموقعين لابن القيم ج 3 ص 4).

[40] (السيل الجرار للشوكاني ج 4 ص 556).

 

- منقول من شبكة الألوكة -