قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين


قال الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215) .
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)(المائدة:54)
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات:13)
وقال تعالى: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(النجم: 32)
وقال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)(أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (الأعراف:49،48) .

شرح العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وغفر لنا وله :


قال النووي رحمه الله تعالى في كتاب رياض الصالحين: باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين.
التواضع :ضد التعالي يعني ألا يترفع الإنسان ولا يترفع على غيره، بعلم ولا نسب ولا مال ولا جاه ولا إمارة ولا وزارة ولا غير ذلك؛ بل الواجب على المرء أن يخفض جناحه للمؤمنين، أن يتواضع لهم كما كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة عند الله؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتواضع للمؤمنين، حتى إن الصبية لتمسك بيده لتأخذه إلى أي مكان تريد فيقضي حاجتها عليه الصلاة والسلام .
وقول الله تعالى: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر: 88) ، وفي آية أخرى: ( لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الشعراء: 215).
(
وَاخْفِضْ جَنَاحَك)(الشعراء: 215): أي تواضع؛ وذلك أن المتعالي والمترفع يرى نفسه أنه كالطير يسبح في جو السماء، فأمر أن يخفض جناحه وينزله للمؤمنين الذي أتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلم من هذا أن الكافر لا يخفض له الجناح وهو كذلك؛ بل الكافر تَرفَع عليه وتَعَالى عليه، واجعل نفسك في موضع أعلى منه؛ لأنك مستمسك بكلمة الله، وكلمة الله هي العليا.
ولهذا قال الله عزّ وجلّ في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: الآية29) ، يعني أنهم على الكفار أقوياء ذوو غلظة، أما فيما بينهم فهم رحماء.
ثم ساق المؤلف الآية الثانية وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ)(المائدة: 54) ، أي من يرجع منكم عن دينه فيكون كافراً بعد أن كان مؤمناً.
وهذا قد يقع من الناس، أن يكون الإنسان داخلاً في الإسلام عاملاً به، ثم يزيغه الشيطان- والعياذ بالله- حتى يرتد عن دينه، فإذا ارتد عن دينه فإنه لا يكون ولياً للمؤمنين، ولا يكون معيناً للمؤمنين، ولذا قال ( يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) يعني بقوم مؤمنين، ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه).
(
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ ) ، فهم في جانب المؤمنين أذلة لا يترفعون عليهم، ولا يأخذون بالعزة عليهم، ولكنه يذلون لهم، أما على الكفار فهم أعزة مترفعون، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)) إذلالاً لهم، وخذلاناً لهم؛ لأنهم أعدى أعداء لك، وأعداء لربك، وأعداء لرسولك، وأعداء لدينك، وأعداء لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآية دليلٌ على إثبات المحبة من الله عزّ وجلّ، وأن الله يحبُ ويُحب ( فَسَوْفَ يأتي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)، وهذا الحب حبٌّ عظيمٌ لا يماثله شيء، تجد المحب لله عزّ وجلّ ترخص عنده الدنيا، والأهل، والأموال؛ بل والنفس، فيما يرضي الله عز وجلّ، ولهذا يبذل ويعرض رقبته لأعداء الله، محبة في نصرة الله عزّ وجلّ ونصرة دينه، وهذا دليلٌ على أن الإنسان مقدم ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه.
ومن علامات محبة الله : إن الإنسان يديم ذكر الله؛ يذكر ربه دائماً بقلبه ولسانه وجوارحه.
من علامات محبة الله: أن يحب من أحب الله عزّ وجلّ من الأشخاص، فيحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب الخلفاء الراشدين، ويحب الأئمة، ويحب من كان في وقته من أهل العلم والصلاح.
من علامات محبة الله : أن يقوم الإنسان بطاعة الله، مقدماً ذلك على هواه، فإذا أذن المؤذن يقول: حي على الصلاة، ترك عمله وأقبل إلى الصلاة؛ لأنه يحب ما يرضي الله أكثر مما ما ترضي به نفسه.
ولمحبة الله علامات كثيرة، إذا أحب الإنسان ربه فالله عزّ وجلّ أسرع إليه حباً؛ لأنه قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي : (( ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) ، وإذا أحبه الله فهذا هو المقصود، وهذا هو الأعظم.
ولهذا قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران:31)، ولم يقل : فاتبعوني تصدقوا الله، بل قال: (يُحْبِبْكُمُ اللَّه) ؛ لأن هذه هي الثمرة أن يحب الربٌّ عزّ وجلّ عبده، فإذا أحب عبده نال خيري الدنيا والآخرة. جعلني الله وإياكم من أحبابه.
وفي قوله: (وَيُحِبُّونَه) دليلٌ على إثبات محبة العبد لربه، وهذا أمر واضحٌ واقع مشاهد، يجد الإنسان من قلبه ميلاً إلى ما يرضي الله، وهذا يدل على أنه يحب الله عزَّ وجلَّ.
والإنسان المؤمن الموفق لهذه الصفة العظيمة، تجده يحب الله أكثر من نفسه، أكثر من ولده، أكثر من أمه، أكثر من أبيه، يحب الله أكثر من كل شيء، ويحب المرء؛ لأنه يحب الله، ومعلوم أن المحب يحب أحباب حبيبه، فتجد هذا الرجل لمحبته لله يحب من يحبه الله عزَّ وجلَّ من الأشخاص، وما يحبه من الأعمال، وما يحبه من الأقوال.
ثم ذكر المؤلف الحافظ النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين تحت عنوان باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين في سياق الآيات المتعلقة بهذا الموضوع وقال: وقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)، يخاطب الله عزّ وجلّ الناس كلهم مبيناً أنه خلقهم من ذكر وأنثى أي من هذا الجنس أو من هذا الشخص.
يعني إما أن يكون المراد بالذكر والأنثى آدم وحواء.
أو أن المراد الجنس أي أن بني آدم خلقوا كلهم من ذكر وأنثى. وهذا هو الغالب، وهو الأكثر.
وإلا فإن الله خلق آدم من غير أم ولا أب، خلقه من تراب، من طين، من صلصال كالفخار، ثم نفخ فيه من روحه، خلق له روحاً فنفخها فيه فصار بشراً سوياً.
وخلق الله حواء من أب بلا أم.
وخلق الله عيسى من أم بلا أب.
وخلق الله سائر البشر من أم وأب.
والإنسان أيضاً كما أنه أربع أنواع من جهة مادة خلقه، كذلك هو أربعة أنواع من جهة جنس الخلق، يقول الله عزّ وجلّ: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى:50،49) .
هذه أيضاً أربعة أقسام:
(
يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً )أي : بلا ذكور، يعني يوجد بعض الناس يولد له الإناث ولا يولد له ذكور أبداً، كل نسله إناث.
(
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور) فيكون كل نسله ذكوراً بلا إناث.
(
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثا) يزوجهم يعني يصنفهم؛ لأن الزوج يعني الصنف، كما قال تعالى: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) (صّ:58) . يعني أصناف، وقال : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) (الصافات:22)،أي أصنافهم وأشكالهم، يزوجهم يعني يصنفهم ذكراناً وإناثاً، هذه ثلاثة أقسام.
القسم الرابع: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً ) لا يولد له لا ذكر ولا أنثى، لأن الله سبحانه وتعالى له ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو السميع العليم.
يقول جلّ ذكره: (وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ) ، الشعوب: الطوائف الكبيرة؛ كالعرب والعجم وما أشبه ذلك، والقبائل: ما دون ذلك، جمع قبيلة، فالناس بنو آدم شعوب وقبائل.
شعوب: أمم عظيمة كبيرة: كما تقول: العرب - بجميع أصنافهم، والعجم بجميع أصنافهم، كذلك القبائل دون ذلك، كما تقول: قريش، بنو تميم، وما أشبه ذلك، هؤلاء القبائل.
(
لِتَعَارَفُوا) : هذه هي الحكمة من أن الله جعلنا شعوباً وقبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضاً، هذا عربي، وهذا عجمي، هذا من بني تميم هذا من قريش، هذا من خزاعة، وهكذا.
فالله جعل هذه القبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضاً، لأن من أجل أن يفخر بعضنا على بعض، فيقول: أنا عربي وأنت عجمي، أنا قبيلي وأنت خضيري، أنا غني وأنت فقير، هذا من دعوى الجاهلية والعياذ يالله، لم يجعل الله هؤلاء الأصناف إلا من أجل التعارف لا من أجل التفاخر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقيّ وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب )).
فالفضل في الإسلام بالتقوى، أكرمنا عند الله هو أتقانا لله عزَّ وجلَّ، فمن كان لله أتقى فهو عند الله أكرم.
ولكن يجب أن نعلم أن بعض القبائل أو بعض الشعوب أفضل من بعض ، فالشعب الذي بعث فيه الرسول عليه الصلاة والسلام هو أفضل الشعوب، شعب العرب أفضل الشعوب، لأن الله قال في كتابه: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )(الأنعام: 124).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) .
ولا يعني هذا إهدار الجنس البشري بالكلية، لكن التفاخر هو الممنوع، أما التفاضل فإن الله يفضل بعض الأجناس على بعض، فالعرب أفضل من غيرهم، جنس العرب أفضل ن جنس العجم، لكن إذا كان العربي غير متقٍ والعجمي متقياً، فالعجمي عند الله أكرم من العربي.
ثم ساق المؤلف الآيات الأخرى: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) لا تزكوها: أي لا تصفوها بالزكاة افتخاراً، وأما التحدث بنعمة الله على العبد مثل أن يقول القائل: كان مسرفاً على نفسه، كان منحرفاً، فهداه الله ووفقه ولزم الإستقامة؛ تحدثاً بنعمة الله لا تزكيه لنفسه؛ فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه أن يذكر الإنسان نعمة الله عليه في الهداية والتوفيق، كما أنه لا حرج أن يذكر نعمة الله عليه بالغنى بعد الفقر.
وقوله: (هوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) هو أي : الرب عزّ وجلّ، ( أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) وكم ممن شخصين يقومان بعلم أو يدعان عملاً وبينهما في التقى مثل ما بين السماء والآرض، ولهذا قال:(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) ؛ تجد الشخصين يصليان كل واحد جنب الآخر، لكن بين ما في قلوبهما من التقوى مثل ما بين السماء والأرض، شخصان يتجنبان الفاحشة لكن بينهما في التقوى مثل ما بين السماء والأرض، ولهذا قال: (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) .
ثم ذكر المؤلف آية أخرى وهي قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأعراف:48) ، أصحاب الأعراف : قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلا يدخلون الجنة ولا يدخلون النار، يحشر أهل النار في إلى النار، ويساق المتقون إلى الرحمن وفداً إلى الجنة زمراً، فيدخل أهل النار النار، وأهل الجنة والجنة، وأصحاب الاعراف في مكان مرتفع.
فالأعراف جمع عرف، وهو المكان المرتفع، لكن ليسوا في الجنة وليسوا في النار، وهم يطلعون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، وفي النهاية يدخلون الجنة؛ لأنه ليس هناك إلا جنة أو نار، هما الباقيتان أبداً، وأما ما سواهما فيزول.
يقول الله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) أي: بعلاماتهم معرفة تامة، (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني جمعكم المال والأولاد والأهل، ما أغني عنكم هؤلاء، وما أغنى جمعكم من الناس الذين هم جنودكم، تجمعونهم إليكم وتستنصرون بهم، ما أغنوا عنكم شيئاً، (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني وما أغنى عنكم استكباركم على الحق.
(
أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) يعني الضعفاء، وكان الملأ المكذبون للرسل يسخرون من المؤمنين ويقولون ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا )(الأنعام: 53) ، يقولون أهؤلاء أصحاب الرحمة؟ أهؤلاء أهل الجنة؟ يسخرون منهم (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ)(المطففين:29-31) . فيقولون لهم: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) يعني قد قيل لهم : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (لأعراف:49). إذاً صار تواضعهم للحق واتباعهم الرسل هو الذي بلغهم هذه المنازل العالية، أما هؤلاء المستكبرون الذين فخروا بما أغناهم الله به من الجمع والمال؛ فإن ذلك لم يغن عنهم شيئاً، فدلَّ ذلك على فضل التواضع للحق، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتواضعين له وللحق الذي جاءت به رسله إنه على كل شيء قدير.

المصدر : موقع العلامة محمد صالح بن العثيمين رحمه الله