قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

بيان مكانة المساجد في الإسلام- الشيخ صالح الفوزان

الحمد لله الذي جعل المساجد بيوته التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وصالح الأعمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وخده لا شريك له، إله انفرد بالعظمة والعزة والجلال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله حث على بناء المساجد وتطهيرها من الشرك وعقائد الضلال. وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاة وتسليما يتجددان بتجدد الغدو والآصال.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واعرفوا ما للمساجد من مكانة وحرمة، وقوموا بحقها من واجب الخدمة. فإنها بيوت الله ومهابط رحمته وملتقى ملائكته والصالحين من عباده، وقد أضافها الرب إلى نفسه إضافة تشريف وإجلال، وتوعد من يمنع عباده من ذكره فيها أو خربها أو تسبب في خرابها. فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة: 114].
عباد الله: إن من ينظر في حالة المساجد اليوم ويقارنها بما كانت عليه في صدر الإسلام وعند القرون المفضلة يجد الفرق كبيرا، فقد كانت المساجد في العهد الأول مواطن العبادة ومعاهد العلم ومنطلق المجاهدين والرابطة القوية بين المؤمنين، كانت في غير أوقات الصلوات لا تخلو من المتعبدين والمعتكفين، ولا من الدارسين المتفقهين، وفي أوقات الصلوات تغص بالمصلين، بحيث لا يتخلف عنها إلا معذور عن الحضور أو منافق معلوم النفاق، وفي العهد الحاضر تغير حالها وساء تعامل الناس معها وأحدث فيها ما يتنافى مع مكانتها وقدسيتها، أولا يليق بكرامتها، ففي بعض البلاد صار يدفن فيها الأموات ممن يعتقد بهم الولاية. وتمارس حول قبورهم فيها جميع أنواع الشرك الأكبر من المسلمين الشيعة الفاطميون يريدون بذلك القضاء على الإسلام وبث الوثنية، لأنهم منظمة يهودية ادعت الإسلام خديعة مكرا، وقلدهم الصوفية الخرافيون في بناء هذه المساجد في بلدان أخرى، فأصبحت هذه المساجد المبنية على القبور مصادر للوثنية، بعد أن كانت المساجد السنية مصادر للتوحيد، وقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم -هؤلاء الذين يبنون المساجد على بعض البلاد تمارس فيها البدع والخرافات المتمثلة بالطرق الصوفية، والأذكار والأوراد الجماعية المبتدعة. وفي بلادنا ساء وضع غالب المساجد، من حيث علاقة الناس بها، ومن حيث وضع القائمين عليها، ومن حيث تخطيطها وتصميمها، ومن حيث نظافتها وصيانتها.
فأما من حيث علاقة الناس بها وارتيادها، فالمساجد في غالب وقتها مهجورة مغلقة الأبواب لا تفتح إلا في وقت الصلاة، ولا يحضر غالب من يريدون الصلاة إلا متأخرين إما عند الإقامة أو بعد ما يفوت معظم الصلاة أو كلها، والكثير لا يعرف المساجد ولا يحضر جمعة ولا جماعة كأنه يعيش في بلاد الكفر كأنه يعيش في بلاد أوروبا وأمريكا، ولا من ينكر ولا من يغار لا من أولياء أمورهم ولا من جيرانهم ولا من عموم المسلمين إلا من شاء الله (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [ص: 24].
وأما من حيث وضع القائمين على المساجد، وهم الأئمة والمؤذنون والملاحظون، فمعلوم أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن كما في الحديث، وعليهما مسؤولية عظيمة فيجب اختيار الإمام من أفضل الموجودين علما ودينا لأنه قدوة، فيجب أن يكون الإمام سليم العقيدة حسن السلوك والخلق، محافظا على إقامة الصلاة في أوقاتها، متمما لأحكامها وأركانها وواجباتها وسننها من غير أن يشق على المأمومين، ولا يجوز أن يتولى الإمام من لا تعرف عقيدته. خصوصا في هذا الزمان الذي كثر فيه الوافدون إلينا من بلاد أخرى بعقائد غير سليمة كالأشاعرة والمعتزلة والجهمية، أو أصحاب النحل الضالة والأفكار المسمومة كالصوفية والمبتدعة والقبورية، إنه يجب أن يتولى اختيار الإمام جهة علمية موثوقة تتعرف أين درس ومن أين تخرج وتختبره في عقيدته اختبارا دقيقا، ولا يكتفي باختيار جماعة المسجد أو بعضهم؛ لأن أغلبهم يجهلون هذه الأمور.
وأما المؤذن فيجب عليه مراقبة الوقت بدقة فلا يؤذن إلا هند دخول الوقت، وإذا غاب وجب عليه أن يخلف من ينوب عنه، وبعض المؤذنين يتساهل في أمر الوقت. فربما أذن قبل دخوله فيصلي من يسمعه من النساء وبعض أئمة المساجد قبل دخول وقت الصلاة، وبعضهم يتأخر في الآذان فيسمعه الكسالى فيتأخرون حتى تفوتهم صلاة الجماعة وهذا خلل عظيم يجب التنبه له وتجنبه.
وأما الملاحظون، لنظافة المساجد فغالبهم لا يقوم بعمله مع أنه يتقاضى المكافأة المالية وهي حرام عليه ما دام لا يقوم بواجبه، ربما يقول بعضهم إن المكافأة قليلة فيتساهل بأداء العمل. وهذا عذر باطل؛ لأن المكافأة وإن كانت قليلة فإنه لا يحل له أخذها إلا بأداء العمل الذي خصصت من أجله.
وأما من حيث تخطيط المساجد: فالوضع الذي عليه غالب المساجد غير مناسب لمتطلبات الوقت الحاضر، فتوزيع المساجد على الحارات غير مناسب؛ لأن بعض الحارات تقل فيه المساجد جدا، والبعض الآخر تكثر فيه المساجد جدا من غير حاجة، والواجب أن تنشأ المساجد على قدر الحاجة؛ لأن كثرة المساجد في موضع واحد مما يسبب تفرق المسلمين وتقليل عدد المصلين فيها، والنبي -صلى الله عليه وسلم -يقول: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى". فدل هذا الحديث على أن كثرة العدد مطلوبة وكثرة المساجد مع تقاربها فيه تشتيت للمصلين وهو أيضا يسبب العجز عن توفير الأئمة الأكفاء لها، إضافة إلى أن المساجد المتقاربة يشوش بعضها على بعض، فإن بعض الأئمة هداهم الله يخرج صوت الميكرفون خارج المسجد فيمتد صوته إلى من حوله من المساجد. وهذا لا مبرر له؛ لأن المطلوب من الإمام أن يسمع من خلفه فقط، أما إذا تجاوز صوته خارج المسجد فهذا فيه محذوران المحذور الأول: التشويش على من حوله، ومعلوم أن الجهر بالقرآن إذا كان يتأذى به مصل أو قارئ آخر فإنه لا يجوز كما نص على ذلك العلماء. وقد قال الله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) [الإسراء: 110].
والمحذور الثاني: أن الإمام إذا قصد أن يسمع صوته خارج المسجد دخل في الرياء والسمعة المذمومين فيجب الانتباه لهذا.
وأما تصميم المساجد: فغالب المساجد لا يفي تصميمها بالحاجة فقد تكون ضيقة ولا يكون لها مرافق كافية كإعداد مساكن للقائمين عليها ودورات المياه، ولا تكون مكيفة بما يخفف عن المصلين الحر والبرد.
وبعض المساجد تزخرف وتفخم عمارتها بما لا يتناسب مع قدسية المساجد، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن زخرفة المساجد فقد روى ابن خزيمة في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا"، وفي رواية لابن حبان: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن يتباهى الناس في المساجد". وما ينفق في هذا المسجد المزخرف من الأموال الكثيرة لو وزع لأقام عدة مساجد على الوجه الشرعي.
وأما حيث صيانة المساجد وتنظيفها: فالتقصير في ذلك ظاهر بحيث إن بعض المساجد يتراكم فيه الغبار والقمامات بسبب الإهمال وعدم العناية؛ لأن الاحتساب اليوم قد قل، والمكلفون بهذا العمل من قبل الوزارة أغلبهم لا يقوم بالعمل؛ لأنه لا يخاف من الله وليس هناك رقابة من الجهة المسؤولة، وقد أحدث في زماننا هذا ما يسمى بأسبوع المساجد ينشط الناس في وقته بنظافة بعض المساجد ثم ينتهي ذلك بانتهاء هذا الأسبوع الذي ليس لوجوده مبرر سوى التشبه والتقليد الأعمى للدول الأخرى التي أحدثت هذه الأسابيع لمقاصد وأهداف، كأسبوع النظافة وأسبوع الشجرة فأحدث هؤلاء أسبوع المساجد بتنظيف المساجد دائما لا في أسبوع فقط، وتنظيفها عبادة إذا خصصت بوقت لم يخصصه الشارع صار بدعة في الدين، والدليل على أنه عبادة من الكتاب والسنة. فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها" رواه أحمد والترمذي وقال: حديث صحيح، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد" الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "إن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فسأل عنها بعد أيام فقيل له: أنها ماتت فقال: فهلا آذنتموني فأتى قبرها فصلى عليها" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فقد شرع لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -تنظيف المساجد كل وقت ولم يقصرنا على أسبوع، فمن خصص أسبوعا لذلك فقد ابتدع، وكل بدعة ضلالة. علاوة على ما في ذلك من التشبه بالكفار، فإن هذه الأسابيع لم تعرف إلا من قبلهم، فالواجب على المسلمين أن ينتبهوا لمسؤوليتهم أما بيوت الله ويتركوا التقليد الأعمى والتشبه الفاسد، الذي قد يكون وراءه ما وراءه.
نسأل الله، أن يرينا الحق ويرزقنا إتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه كما يشرع تنظيف المساجد على الدوام وتطييبها، فإنه يحرم امتهانها بإلقاء القاذورات كالبصاق والمخاط والأوراق المهملة ومخلفات الطعام ونحو ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوما إذ رأى نخامة في قبلة المسجد فتغيظ على الناس، ثم حكها قال: "وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخه به، وقال إن الله عز وجل قبل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبصق بين يديه" رواه البخاري ومسلم، وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا" رواه مسلم وأبو داود.
وعن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس الله فيهم حاجة" رواه ابن حبان في صحيحه.
أيها المسلمون، من هذه الأحاديث الشريفة يتبين لنا حرمة المساجد والنهي عن امتهانها بإلقاء القاذورات فيها وجعلها محلا للسؤال عن الأموال الضائعة ونحو ذلك، وجعلها مجالس للتحدث بأمور الدنيا، وقد اعتاد بعض الشبان المتدينين في وقتنا الحاضر إلصاق الأوراق على جدران المساجد وعلى أبوابها. وتكتب فيها بعض الإعلانات أو تكتب فيها بعض الآيات أو الأحاديث أو النصائح حتى أصبحت بعض المساجد كأنها معارض أو متاحف وهذا العمل محدث لم يكن من عمل السلف الصالح، إضافة إلى أنه يشغل المصلين والداخلين إلى المسجد عن ذكر الله وقد يكون المكتوب أيضا مما لا يجوز نشره كأن يكون حديثا مكذوبا، أو دعاية لمذهب باطل، وبعض الجهال يأتون بكتب ونشرات ويضعونها في المساجد للتوزيع، وقد تكون هذه الكتب والنشرات غير مسموح بتوزيعها لما تشتمل عليه من أباطيل أو فتاوى غير صحيحة أو أورادا وأذكار بدعية، كجعل المساجد محلا لبث الدعايات والإعلانات والخرافات. ويجب أن لا يوزع أي كتاب أو نشره أو فتوى إلا بإذن من دار الإفتاء والإشراف على المطبوعات لئلا يجد المخرفون سبيلا إلى نشر خرافاتهم بيننا، إنه يجب على أئمة المساجد والمؤذنين الانتباه لهذا، ويجب أن لا يوضع في المساجد إلا المصاحف فقط، كما كانت في عهد السلف الصالح والتابعين لهم بإحسان.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من الدسائس الماكرة ولا تقبلوا أي كتاب أو نشرة أو فتوى إلا بعد عرضها على أهل العلم الموثوقين في علمهم وعقيدتهم.
وفق الله الجميع