قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْر


الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . اللّٰهمَّ علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علمًا ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم بارك لنا في جمعنا هذا ، اللهم اعمره بالخير والبركة ، اللهم ألهمنا رشد أنفسنا ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ؛ أما بعد :
أولًا هذه ساعة كريمة ولحظاتٌ طيبة جميلة أجلسها مع إخوةٍ أفاضل وأحبةٍ أكارم في بيتٍ من بيوت الله جل وعلا في تدارس شيء من دين الله ، أو بالأحرى في وقفاتٍ مع حديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد جاء في صحيح مسلم في بيان فضل مثل هذه الاجتماعات أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة يومًا وهم جلوس في المسجد يتذاكرون فَقَالَ: ((مَا أَجْلَسَكُمْ؟)) قَالُوا: «جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا» ، فقَالَ عليه الصلاة والسلام : ((آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟)) يستحلفهم بالله ، قَالُوا: «وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ» ، قَالَ: ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ)) ، ونظير هذا ما جاء في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال : ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)) . ذكرنا الله أجمعين فيمن عنده .
أما موضوع هذا اللقاء : فوقفاتٌ مع حديث عظيم مخرَّج في صحيح البخاري عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)) وفي لفظ ((وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا)) .
هذا الحديث حديث عظيم مليء بالفوائد وجديرٌ بأن يتأمله المسلم تأملًا جيدًا وأن يقف مع فوائده العظيمة ومضامينه الجليلة ، وقد صدَّره النبي صلى الله عليه وسلم بذكر أسٍّ عظيم وأصلٍ متين قام عليه دين الله جل في علاه ؛ وهو أن هذا الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لنا ورضيه دينًا لعباده ولا يقبل دينًا منهم سواه ، دينٌ ميسَّر لا عنت فيه ولا مشقة ، ليس فيه تعسير بل هو دين سمح ودينٌ ميسَّر ودينٌ سهل لا حرج فيه على العباد ولا مشقة ولا عنت عليهم ؛ وهذا أصل كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ)) ، وهو يسرٌ في كل أموره :
%     عقائده التي عليها قيام الدين عقائد صحيحة وعظيمة وقويمة تقبلها الفطَر السليمة والعقول المستقيمة ، عقائد إذا دخلت بمنٍّ من الله وفضل إلى القلب انشرح واطمأن وانزاحت عنه همومه وغمومه وحصلت له الطمأنينة كما قال الله: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}[الرعد:28-29] ، فالعقائد التي عليها قيام هذا الدين وهي ترجع إلى أصول ستة وهي: الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره عقائد عظيمة جدًا يقوم عليها دين الله ، ولا تصلح أعمال العباد إلا بها ، ولا تزكو إلا بها ، ولا تطيب إلا بها ، وإذا انتقضت أو انتقض شيءٌ منها بطل العمل كله كما قال الله عز وجل : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:5] .
%     وأعمال الدين أعمالٌ سمحة أعمالٌ ميسرة ؛ إذا نظرت إلى فرائض الإسلام التي يُبنى عليها الإسلام كما قال عليه الصلاة والسلام : ((بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ)) ، هذه الخمس من استمسك بها وحافظ عليها دخل الجنة ، ألسنا سمعنا قصة الصحابي الذي قال للنبي مقسمًا بالله «وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ» ، قَالَ: ((دَخَلَ الجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ)) ؛ إذا صدق الإنسان مع الله في هذه الفرائض الخمس وحافظ عليها وتجنب الحرام دخل الجنة بدون حساب ولا عذاب ، هذه الخمس من حافظ عليها وتجنب الحرام دخل الجنة يوم القيامة دخولًا أوليًا بدون حساب ولا عذاب ، وهذا يقال له : «المقتصد» الذي اقتصر على الفرائض وتجنب المحرمات. إذا نظرت في هذه الخمس :
§    شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ هاتان الكلمتان العظيمتان اللتان عليهما قيام الأعمال والطاعات ؛ الشهادة لله بالوحدانية ، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة .
§    والصلاة التي افترضها الله جل وعلا على عباده هي خمس صلوات في اليوم والليلة ، وجعل الله سبحانه وتعالى لها أوقات هي من أحسن الأوقات لأداء هذه الصلوات ، وهذه الأوقات الخمسة للصلوات هي أوقات صلوات لدى جميع النبيين في الأمم الذين قبلنا ، هذه أوقات جعلها الله عز وجل في كل الأمم أوقات صلوات ، أوقات عبادة لله سبحانه وتعالى . إذا نظرت وإذا بها خمسة أوقات من يوم وليلة ، أوقات قليلة جدًا لكنها راحة للعبد ، وطمأنينة لقلبه ، ومعونة له في أعماله ، ومزدجر له عما حرم الله سبحانه وتعالى عليه ، وكم وكم يترتب على هذه الصلوات الخمس من خيراتٍ عظيمة . ثم دعا الرجال لأدائها في بيوت الله وهذا من يسر الشريعة وسماحتها ، لأن هذه الجماعة من باب التيسير ، ولا يخفى على المتأمل ما في وجود الجوامع والأذان فيها والمناداة للصلاة والاجتماع للصلاة من معونة للإنسان وتيسير له لأداء هذه الصلوات ، بخلاف من غلُظ فهمه وساء فهمه فإنه يرى أن الصلاة مشقة عليه في الجماعة ، بينما هي من يسر الشريعة؛ تأتي منبسطًا منشرح الصدر ، تلتقي بإخوانك تسلِّم عليهم ويسلِّمون عليك ، تطمئن عليهم ويطمئنون عليك ، تأنس بهم ويأنسون بك ، بالله لو لم تكن هذه الصلوات كيف تكون العلاقة بين البيوت؟ وكم في هذه الصلوات من تحقيق للروابط والصلة والمحبة والتعاون ، كم من أناسٍ قامت بينهم محبة عظيمة لم تنشأ إلا في بيت من بيوت الله ولم يلتقوا إلا في بيت من بيوت الله ؛ فبيوت الله جل وعلا هذه معونة للعبد وهي من يسر الشريعة وسهولتها وسماحتها . وإذا نظرت أُمرت بهذه الصلاة كما في الحديث قائمًا ، ثم انظر هذا اليسر ((فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع فعلى جنب)) ، ((مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) ، يقول الله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16] ؛ هذا كله من يسر الشريعة وسهولتها وسماحة هذا الدين العظيم المبارك .
§    إذا نظرت في الزكاة ؛ هذه الفريضة العظيمة لم يفرضها الله عز وجل إلا على الأغنياء ، إلا على من يملك النصاب ، وهي قليل جدًا من مال كثير آتاه الله إياه ، ثم هذا المال الذي يخرجه يكون بركةً لماله ، وزكاءً لقلبه، ونماءً لماله ، ومعونةً للمحاويج والفقراء في بلده ، وفيه من المصالح الشيء الكثير .
§    الصيام فريضة أوجبه الله سبحانه وتعالى على المسلم في السنة شهرًا واحدا ؛ يصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في كل يوم من أيام رمضان ، وإذا كان لا يطيق الصيام فإنه يُطعم ، وهذا كله من يسر الشريعة ، إن كان به مرض فإنه يصوم عن ذلك عدةً من أيام أُخر ، كل ذلك من يسر هذه الشريعة ليس فيها عنت وليس فيها مشقة .
§    الحج وهو من أركان الإسلام الخمسة يجب في العمر كله مرة واحدة ، وليس على كل أحد وإنما على المستطيع {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }[آل عمران:97] .
ولهذا يا إخوان لا يهلك على الله إلا هالك ، هذه الأمور السمحة السهلة الميسرة كيف يفرط فيها الإنسان !! وكيف يضيِّعها !! ويكون بتضييعها الحرمان في الدنيا والآخرة عياذًا بالله تبارك وتعالى من ذلك .
 إذا نظرت إلى الأخلاق والآداب والمعاملات التي يدعو إليها هذا الدين العظيم تجد أنها من أكمل ما يكون وأجمل ما يكون وأعظم ما يكون ؛ بر الوالدين ، وصلة الأرحام ، وحقوق الجار ، وحقوق الكبار كبار السن، ترى جمالًا يدل على حسن هذه الشريعة وكمالها وعظمتها ، عندما تقرأ الآداب آداب الشريعة تجد أنها حتى البهيم والحيوانات دعا الإسلام إلى الرفق بها وإلى الإحسان إليها وحسن التعامل معها ، ونهى عن الشدة والغلظة والفظاظة ؛ فهو دين سمحٌ في كل أموره . فهذه قاعدة تجمع الدين كله كما قال عليه الصلاة والسلام: (( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ )) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ)) ؛ وهذا فيه دعوة للعباد إلى أن يمضوا في هذا الدين مع يسر الشريعة وسماحتها ، لا يشدِّد الإنسان على نفسه ولا يغالي ولا يرتكب أيضًا البدع المحدثات التي ما أنزل الله تبارك وتعالى بها من سلطان ، كم جنَتْ على الناس وكم جرَّت لهم من ويلات وكم أبعدتهم من حدود الشريعة !! فعلى الإنسان أن يحذر من ذلك أشد الحذر .
((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ)) ؛ والمشادة للدين : بعدم الاقتصار على هداياته العظيمة وتوجيهاته السديدة وإرشاداته المباركة ، ويبدأ يحمِّل نفسه من الأعمال إما ما لا تطيق بأن يشدد على نفسه ، أو يحمِّل نفسه من الأعمال ما لا يشرع من البدع والمحدثات ؛ فتكون العاقبة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ )) . ولهذا سبحان الله !! من يشددون على أنفسهم بالمغالاة إما بالبدع أو بتحميل النفس ما لا تطيق تكون العاقبة في نهاية الأمر إلى الحرمان ، ولهذا تجد بعضهم يشدِّد على نفسه ويحمِّلها أمورًا ما لا تطيق ثم تمل ويترك حتى الفرائض ويحس بأن الدين ثقيل جدًا ، والواقع أن الدين ليس فيه هذا الثقل الذي هو جلبه على نفسه ، الدين يسر ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ )) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ((فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا)) ؛ «سَدِّدُوا»: أي ألزِموا أنفسكم ما استطعم إلى ذلك سبيلا ، السداد قولًا وفعلا . والسداد : هو إصابة الهدي ، إصابة السنة ، إصابة فعل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام .
فيحرص الإنسان ما استطاع سبيلا أن يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأن يزمَّ نفسه بزمام الشرع في الفرض والنفل ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فإن لم يتمكن ينتقل إلى المرحلة الثانية «وَقَارِبُوا» . «سَدِّدُوا» هذه المرحلة الأولى تليها المرحلة الثانية المقاربة «وَقَارِبُوا» ؛ إن لم تتمكن من السداد كن قريبًا ، اقترب من الحق ، اقترب من الهدى وجاهد نفسك على القرب منه ، وسبحان الله !! المداومة على القرْب من لم يستطع السداد ومجاهدة النفس على القرب يوصل العبد بإذن الله تبارك وتعالى إلى السداد الذي هو موافقة السنة وموافقة ما عليه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام .
قال : ((وَأَبْشِرُوا)) أي ما دمتم في السداد أو المقاربة فلكم البشارة ، البشارة بماذا ؟ قال «وَأَبْشِرُوا» لم يذكر البشارة بماذا ؟ والقاعدة عند أهل العلم «أن حذف المتعلَّق يفيد العموم» ؛ فقوله «وَأَبْشِرُوا» لم يعيِّن بشارة بماذا؟ هل هي دنيوية هل هي أخروية ؟ ما هي هذه البشارة؟ تعم كل خير في الدنيا والآخرة ، فقوله «وَأَبْشِرُوا» هذه تتناول بشارةً لمن كان من أهل السداد أو كان من أهل المقاربة بكل خير في الدنيا والآخرة ، وفضل الله سبحانه وتعالى عظيم جل في علاه .
((فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا)) ؛ وقوله «وَأَبْشِرُوا» هذا فيه تنبيه إلى أمر تمس حاجة الناس إليه ألا وهي : أن الناس يحتاجون إلى البشارة ، والبشارة لها أثر عظيم جدًا على القلوب في تنمية الإقبال على العمل والطاعة والعبادة وانشراح الصدر لأعمال الخير ، ولهذا فعلًا الناس يحتاجون ولاسيما من الدعاة والأئمة والخطباء أن يذكِّروهم بالفضائل ؛ فضائل الأعمال وعظم ثوابها عند الله سبحانه وتعالى ، وهذه كلها بشارات ، فضائل الأعمال كلها بشارات ، وإذا سمع المسلم مثل هذه البشارات نشِط للعمل .
فقوله ((فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا)) أتبعه بقوله ((وَأَبْشِرُوا)) ؛ فإذًا لما تحث ابنًا أو قريبًا أو جارًا على عبادة - على الصلاة مثلا أو على الصيام أو على البر أو على الإحسان- بشِّره ، حثه على العمل الصالح وبشِّره مباشرة مثل ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام ، والتبشير يكون بذكر الفضائل فضائل الأعمال والثواب العظيم الذي أعدَّه الله سبحانه وتعالى لمن قام بها وواظب عليها.
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ((وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)) ؛ الغدوة : أول النهار ، والروحة: آخر النهار ، والدلجة : وقت من الليل . وهذه الأوقات الثلاثة قديما كان لها شأن عظيم جدًا عند المسافر ؛ فهي أرفق الأوقات بالمسافر وبراحلته دابته ، أرفق الأوقات أول النهار ، وآخر النهار ، وشيء من الليل. وكما أنها أفضل الأوقات وأرفقها وأحسنها للسفر الدنيوي فهي كذلك أعظم الأوقات وأحسنها للسفر الأخروي، فهي أوقات فاضلة عظيمة جدًا للإقبال على الله بالذكر والدعاء وقراءة القرآن ؛ ولهذا يأتي في أول النهار صلاة الفجر وأذكار الصباح العظيمة المباركة ، ويأتي في آخر النهار صلاة العصر ثم المغرب وبينهما وقت ذكر لله سبحانه وتعالى ، وشيء من الدلجة أن يكون للإنسان شيء وحظ ونصيب من الليل ، يكون له وردًا من صلاة قراءة قرآن ذكرٍ لله سبحانه وتعالى ، لا يحرم نفسه من الخير ، وإن كان هذا في جوف الليل وآخره فهو أعظم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ((وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا)) ؛ والقصد: هو التوسط والاعتدال بين طرفي الغلو والجفاء ، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143] أي شهودًا عدولا ، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها . وما من عملٍ صالحٍ دعا الله سبحانه وتعالى عباده إليه جميع الأعمال إلا والناس فيه ثلاثة أقسام :
1.    منهم من يغلو في العمل ؛ فيجاوز حد الشرع فيه بالغلو .
2.    ومنهم من يجفو ؛ بالتخلي عن العمل وتركه .
3.    ومنهم من يتوسط ؛ وهو من يقوم بالعمل موافقًا هدي النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه .
فليحذر العبد أشد الحذر من الغلو والجفاء ، وليلزم القصد .
قال : ((وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا)) ؛ تبلغوا ماذا ؟ أيضا مثل ما سبق في قوله ((وَأَبْشِرُوا)) لم يذكر المتعلَّق ليعمَّ بلوغ كل خير وفضيلة في الدنيا والآخرة ، إذا كان المرء متوسطا معتدلًا ؛ بعيدًا عن الغلو والجفاء ، ملازمًا هدي النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا أجمعين لما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، وأن يجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر ، وأن يغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجلَّه ، أوله وآخره ، علانيته وسره ، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم أصلح ذات بيننا ، وألِّف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا ، واجعلنا مباركين أينما كنا ، اللهم أعِنَّا ولا تُعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا . اللهم اجعلنا لك ذاكرين ، لك شاكرين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبَّل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا . اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .

 

الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر