قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله
*لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُها*
منهاج النبوة

تأصيل المناهج الدعوية في ضوء الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم، تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

إن من المهمات معرفة ما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان ، في زمن تلاطمت فيه الفتن، واختلط فيه الليل بالنهار، واشتبه على كثير من الناس الطريق، وضل كثير عن السبيل، فكان من الواجب التذكير بأمر الله -جل وعلا-، وبالمنهج الذي جعله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولصحابته -رضي الله عنهم أجمعين-، ولمن سار على نهجهم.

إن الحياة مهما طالت فإنها مَعْبَر للآخرة، والآخرة خير لمن اتقى، وهي طريق إما إلى الجنة وإما إلى النار، وليس العمل بكثرته وتعدده، وإنما بصوابه وموافقته للسنة قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [سورة هود: الآية 7]، فَحُسْنُ العمل أن يكون خالصًا صوابًا، والصواب ما كان على السُّنَّة، لا على ما أحدثته العقول من الأهواء، والبدع.

الدعوة إلى الله عبادة

موضوع هذا البحث هو: "تأصيل المنهج الدعوي في ضوء الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح" وسبب اختيار هذا الموضوع أن الدعوة هي سمة هذه الأمة، وسمة أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [سورة يوسف: الآية 108]، وقال تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة الشورى: الآية 15]، فالدعوة هي السبيل، والنهج، والطريق الذي لا بُدَّ لَنَا منه.

إن الدعوة عبادة عظيمة من العبادات التي يتقرب بها إلى الله -عز وجل-، عبادة متعدية النفع، نفعها لا يقتصر على صاحبها، بل يتعدى نفع صاحب الدعوة بالدعوة إلى الناس في بلده، أو في خارج بلده، أو بمن يسمعه إلى قيام الساعة.

أنواع الدعاة 

الدعاة نوعان:

الصنف الأول: من يدعو على وفق الأمر الأول، وفق السُّنَّةِ مع الأخذ بما جَدَّ في العصر من مستجدات، لا تخرج عن إطار التزام السنة والجماعة وطرائق السلف الصالح. الصنف الثاني: أراد أن يدعو، لكن هذه الدعوة كانت على وفق الأهواء والاجتهادات، دون رجوع إلى ركن وثيق من العلم، فتعددت الأهواء والمشارب، فصارت الدعوة مناهج شتى، وطرائق مختلفة، كل يَدَّعِي صوابه فيما يأتي ويذر، ولا شك أن العناية بالتأصيل فيه عصمة للعقل والقلب من الوقوع في الغلط، لذلك جاء هذا البحث.

تعريف المنهج

المنهج هو: الطريق، ذكره الله -جل وعلا- في كتابه بقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[سورة المائدة: الآية 48].

والنهج: هو الطريق الواضح الذي لا التباس فيه، فقولنا: سلك نهجا واضحا يعني: طريقا متأكدًا منه، واضحا لا التباس فيه.

إن الدعوة تحتاج إلى طريق، لذا بَيَّن القرآن في آيات كثيرة هذا المنهاج وهذا المنهج، لأن الشرائع مختلفة، والمناهج مختلفة، لكن عقائد الأنبياء واحدة، فالمناهج الدعوية قد لا تكون على وفق كتاب وسنة، وطريقة مأمونة مما أخذها أهل العلم عن السلف الصالح، بل يكون فيها ضرب من النظر في المصالح والمفاسد، بحسب توهم أصحابها النظر في أهداف خاصة، إما إقليمية، أو حزبية، أو سياسية، أو فئوية، أو جماعية.

إن الدعوة لا تكون دعوة على منهج صالح إلا إذا ارتفعت عن الأغراض الدنيوية، وصارت بالله -جل وعلا-، لهذا أَجْرُ الداعية ليس على البشر، بل أجره على الله، قال تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِين إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[سورة ص: الآيات 86- 88].

الدعوة لا يُؤخذ عليها أجرًا:

إن الداعية لا يأخذ على دعوته أجرًا من الخلق، لأنه على سبيل محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولأنه إذا أخذ أجرًا دنيويا من الخلق فإنه ربما سلك ما يريدونه، أو يستحسنونه، أو تأول إليه أهوائهم دون النظر إلى أمر آخر. 

إن الإنسان إذا أخذ عِوَضَ دعوته فإنه ربما يقول ما يوافق ما أراد من يعطيه أجرًا في ذلك، لهذا كان أجر الداعية على الله -جل وعلا-، قال سبحانه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [سورة ص: الآية 86]، وقال تعالى في الآية الأخرى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [سورة يونس: الآية 72]، وهذا أسلوب قصر وحصر. 

إن الداعية إذا لم يأخذ على دعوته أجرًا من الخلق، فهذا يقتضي الإخلاص، فإنه كلما كان قلب الداعية معلقا بالله -جل وعلا- كلما كان منهجه في دعوته على وفق طريقة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

فمن المهمات أن يكون الاقتداء في الدعوة قبل معرفة الطريق، أن يكون الداعية متخلصا من طلب الدنيا، وكلما كان أقرب إلى الدنيا، كلما فاته من الصواب في دعوته بقدره، أما إذا كان مراده بالدعوة الإسلامية الدنيا، إما جاه، وإما منصب، أو مال، أو انتصار حزب، أو انتصار فئة على فئة، أو نحو ذلك، فإنه يقع في الانحراف في دعوته، ولا يصل الحق إلى الناس. 

وجوه أفضلية الدعوة:

إن الدعوة إلى الله -جل وعلا- ليست عملا من أفضل العبادات فحسب، بل عدها جمع من أهل العلم أفضل العبادات، لأنها مشتملة على أنواع الأفضلية، وأنها نوع من الجهاد في سبيل الله لقوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ} [سورة الفرقان: الآية 52] يعني: جاهدهم بالقرآن {جِهَادًا كَبِيرًا}[سورة الفرقان: الآية 52]، والمجاهدة بالقرآن تعني: الدعوة إلى الله بالقرآن والسنة، التي هي بيان للقرآن.

ومن أوجه التفضيل: أن الدعوة إلى الله صارت أفضل العبادات لأنها متعدية النفع، أما العبادات التطوعية فتكون قاصرة النفع على صاحبها، فمن يقوم في ليله، أو يكثر التلاوة للقرآن، هذا نفعه لنفسه، لكن تعليم الآخرين القرآن والسنة، يدعوهم، يحبب الله إليهم، ويقربهم إلى الله، فإن هذا النفع متعدٍ إلى غيره.

قال ابن الجوزي -رحمه الله- في صيد الخاطر: "وجدت أن التأليف والتصنيف أنفع من التدريس، وذلك أن المعلم يحضر له عدد من الطلاب، أربعين، خمسين، مائة ثم إذا مات انتهوا" انتهى هذا العدد بقدر من علمه، ثم هم يُعَلِّمُونَ، وهكذا، ولكن المؤلف والمصنف التصانيف النافعة التي تفيد الأمة لا ينفك أن ينتفع منها عدد كبير، فصار من هذه الجهة نفعه متعدٍ.

الدعوة واجبة:

إن الدعوة مأمور بها قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل: الآية 125]، وقال -جل وعلا-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [سورة يوسف: الآية 108]، وقال أيضا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} [سورة آل عمران: الآية 104]، وقال أيضا -جل جلاله-: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة الشورى: الآية 15] والآيات في ذلك كثيرة.

فضيلة الدعوة:

ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِهُدَاكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»( 1). وحمر النعم -بسكون الميم- يعني: الإبل الحمراء، غالية الثمن.

وثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»( 2).

تعريف الدعوة:

إن العلماء تتابعوا على ذكر فضيلة الدعوة، والدعوة إلى الله: اسم عام يشمل كل وسيلة من وسائل إبلاغ الدين إلى الناس سواء أكان ذلك بالتعليم، أو التأليف، أو التدريس، أو كان بالذهاب إلى القُرَى والبوادي، أو إلقاء المحاضرات، أو المشاركة في وسائل الإعلام، أو بأي نوع من ذلك، كل وسيلة فيها إبلاغ للدين الحق للناس فهي دعوة إلى الله تعالى. 

الدعوة الحق القائمة على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة:

والدعوة إلى الله كل يَدَّعِيهَا، مناهجها شتى، والمنتسبون إلى الدعوة طرائق، ولكن هذه الطريقة، وهذه المناهج قد تكون بعيدة تماما عن الكتاب والسنة، وطرق سلف الأمة، كوسائل دعوة غلاة الصوفية، والمريدين، والأحزاب السياسية البحتة، التي استخدمت الدين وسيلة لدعوة الناس إلى مفاهيم سياسية، ليس فيها تعبد لله، وليس فيها إيضاح الدين الحق لله.

لماذا فَهْمُ السلف الصالح؟

من المجاهدة والجهاد أن يحرص الداعية أن يكون في دعوته على وفق كتاب الله، وسنة رسوله، وعلى فهم السلف الصالح، لماذا فَهْمُ السلف الصالح؟ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [سورة التوبة: الآية 100]، وهذا جعل الذين اتبعوا الصحابة بإحسان مشمولين بنفس الفضل، فيدخل في الآية: لصحابة الذي تلوا السابقين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ولأجل ذلك قال أهل العلم: السلف الصالح.

من هم السلف؟

السلف الصالح هم: الذين شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاح، وهم القرون الثلاثة المفضلة، الذين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»( 3) فذكر قرنين أو ثلاثة قرون، وهذا يعني شدة التمسك بما كان عليه أولئك. 

سمات منهج الدعوة إلى الله على الكتاب والسنة

إذا رأينا ما كان عليه أولئك القرون الفاضلة، فإننا نجد أن المنهج الدعوي المتصل بالسلف الصالح -رضوان الله عليهم-، ومن مشى على هذا المنهج من أئمة أهل العلم، وأئمة أهل الاجتهاد: كسادات التابعين، وتابع التابعين، والأئمة الأربعة، ومجتهدي أهل الإسلام، وعلماء الإسلام إلى وقتنا الحاضر، وإن تباعدوا في بعض المسائل قليلا، لكنهم يشتركون في سمات وصفات، هذه السمات والصفات هي سمات منهاج الدعوة على الكتاب والسنة، وفهم السلف الصالح. 

السمة الأولى: الإخلاص:

الإخلاص لله في الدعوة، وأن الدعوة ليست لأحد، ليست لشيخ، ولا للنفس، ولا لقبيلة، ولا لبلد، ولا لمذهب، ولا لطائفة، ولا لجماعة، ولا لحزب، إنما هي تقريب الخلق إلى الله -جل وعلا-، وجعل الخلق يحبون الله -سبحانه وتعالى-، ويعبدونه وحده لا شريك له على سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [سورة يوسف: الآية 108] قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كلامه على هذه الآية: "وفيها: التنبيه على الإخلاص لأن كثيرًا لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه".( 4) 

فيجب على الداعية أن ينتبه لنفسه، وأن يحاسب نفسه بين الحين والآخر، قد يأتي الشيطان، وقد تأتي أغراض الدنيا وتعرض للإنسان بين الحين والآخر، لكن المؤمن رجّاع إلى الحق، لا ينفك من رجوعه إلى الله تعالى بين الحين والآخر، يطلب الصواب من الله سبحانه ويستغفر ربه -جل وعلا- من ضعف الإخلاص في الدعوة إلى الله، لأنه لا ينتفع الناس من دعوته إلا إذا أخلص لله -سبحانه وتعالى-.

نعم هناك حديث كثير قد يتحدث به الإنسان، تلذ له الآذان، لكنه لا يحرك في القلوب صلة بالله، ولا تعظيما لله، ولا تعظيما لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا صلة بالعلم وأهله، ولا بالرجوع للحق، ولا يحرك في القلوب توبة ولا إنابة ولا اتباعا، إنما يزين الكلام في العقول، دون تأثير حقيقي، فإن الكلام إذا صدر من اللسان لم يتجاوز الآذان، وإذا صدر من القلوب فإن القلوب تعيه وتعقله.

وليحذر الداعية أخذ الأجر على دعوته، ليحذر أن يقول بثمن، أن يشارك بثمن، وإذا غلب على نفسه شيء من ذلك، أو من الحاجة فليراجع نفسه أن يكون مصيبا في قوله، والدعوة تختلف عن القرآن، وتعليم القرآن، الدعوة لها أحكام غير تعليم القرآن، لذلك أجاز العلماء أن يأخذ الداعية رِزْقًا لا أجرًا، يأخذ مكافأة من بيت المال يُقِرُّها ولي الأمر، مكافأة غير مشروطة على قيامه بهذا الواجب الكفائي، لأن الله -سبحانه وتعالى- قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ}[سورة آل عمران: الآية 104]، فأمر بأن يكون منا عدد كافٍ يدعو إلى الخير، فإذا أخذ رِزْقًا يعينه على القيام بذلك وليس أجرًا مقيدًا بساعة أو يوم، فإنه لا حرج عليه في ذلك.

السمة الثانية: وضوح الأولويات:

فالمنهج الدعوي في الكتاب والسنة ظاهر الأولويات، والمقصود بها: الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، وهذه الأولويات ظاهرة بِيِّنَةٌ في حديث معاذ -رضي الله عنه- حينما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قال له: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»

( 5).

فهذا الحديث ظاهر الدلالة في أن الدعوة تكون إلى توحيد الله تعالى أولا، والدعوة إليه إجمالا وتفصيلا، يدخل في ذلك تعليم العقيدة الصحيحة، ونشر مؤلفاتها، وبيان ذلك للناس في كل مكان، عن طريق الوسائل الحديثة، كالإنترنت، ووسائل الإعلام، وغير ذلك. 

فإن هذا من أعظم القربات التي نقتدي فيها بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه مكث العهد المكي كله يدعو الناس إلى التوحيد.

السمة الثالثة: الحرص على الاتباع وعدم الابتداع:

إن الزمن قد يؤدي بالمرء إلى أن يحدث بِدَعًا في الدعوة، لأن الداعية حريص على نجاح دعوته، ويريد أن يوصل للناس الرسالة، فحرصه على الخير قد يجعله يبتدع في الدعوة أشياء لم يأذن الله بها، ولم يدل عليها دليل.

إن كثيرًا من الناس تختلط عليه المصالح في الدعوة بوجوب الاتباع، فيظن أن كل مصلحة ظهرت فإنه يسوغ الأخذ بها، وهذا ليس بصحيح، فالمصالح التي دعت إليها الشريعة هي المصالح التي دل عليها الدليل، أو المصالح الاجتهادية التي لا يكون فيها مضاهاة للشرع، أو ما لا يحمد في الشرع.

إن المصالح التي فيها ابتداع، أو خروج عن الإخلاص، أو عدم لزوم الأولويات في الشرع، فإن هذا باطل، مثل من يقول: إننا نريد بالدعوة السياسة، أما الأمور الأخرى فدعها بعد ذلك. ومثل من يقول: المهم في الدعوة السلوك، إننا نربي الناس على الزهد، والفضائل وأشباه ذلك. وهم في الدين لا يفقهون، وفي التوحيد ضعاف، ربما جهلوا، ووقعوا في بعض البدع المحدثات، فهذا خروج عن قاعدة الدعوة التي سار عليها السلف الصالح.

لا بد من الاتباع والحذر من الابتداع لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته من حديث عائشة: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»( 6). رد يعني: مردود على صاحبه. وقوله: «في أمرنا هذا» الدعوة داخلة في هذه الإضافة، لأنها من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن أمر الدين، فمن أحدث في الدعوة ما ليس من الإسلام، ما ليس من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما لم يُقِرَّهُ أهل العلم، فهو مردود على صاحبه.

السمة الرابعة: الاعتناء بالعلم:

الاعتناء في التربية بالعلم، فبعض الدعاة في التربية الدعوية يعتني بالسلوكيات، أو يعتني بفهم الواقع المحلي، أو الواقع الدولي، أو فهم محاسن الإسلام، أو فهم التقارير المتعلقة بأوضاع الحكام، أو الدول، أو المستجدات، ويمضي الداعية على هذا الأمر سنين دون تغيير، أو دون أن يغير في منهاج دعوته، هذا فيه ضرر بَيِّنٌ على المدعو، لأنك تدعو هذا الإنسان إلى ربه، فإذا كنت تدعوه إلى ربه، فإنما تدعوه لما ينجو به يوم القيامة، فمن أتى الله بقلب سليم إنما ينجو يوم القيامة، لا من أتى بعقل متنور، يفهم المستجدات، يفهم العصر وأحوال الوقائع السياسية، حتى أصبح بعض الدعاة، أو بعض من يهتم بالدعوة يتابع الأخبار السياسية أكثر من مراجعته لكلام أهل العلم، للقرآن، والتفسير، والبخاري ومسلم، وكتب السنة، وكلام المجتهدين من أهل العلم، وفي هذا ضرر بالغ على الداعية نفسه، وعلى المدعوين.

 لذا كان من المهم العناية بالعلم النافع، وأن يكون من أول درجات التربية، وأول ما يهتم به التربية العلمية بمعرفة الداعي للقرآن، وحفظه ما تيسر منه، وللسنة والالتزام بها، معرفة الفَرْقِ بين السنة والبدعة، التحذير من الابتداع، والعناية بالعلم المرتبط بالقرآن والسنة. 

السمة الخامسة: العناية باللغة العربية:

من المسائل المتصلة بمنهج السلف الصالح في الدعوة والعلم: العناية باللغة العربية، فالقرآن إنما أنزل بلسان عربي مبين، فكيف نَفْقَهُ القرآن، نَفْقَهُ أوامره، ونواهيه، وحدوده، وعده، ووعيده؟ كيف نفقه ما قص الله علينا فيه؟ كيف تُحَرَّكُ به القلوب؟ إنما هو باللغة العربية.

كان السلف الصالح إذا دعوا إلى الله في أي من البلاد التي فتحوها بالعلم والقرآن، قبل السيف والسِّنَان، فإن أول ما يعلمون الناس اللغة العربية، فانتشرت اللغة العربية حتى كان من أبناء الأمم الأخرى من أَصَّلَ لنا قواعد اللغة العربية، وذلك لعنايتهم بها، واشتداد اهتمامهم بها.

فالصالحون اليوم من أهل العلم في مشارق الأرض ومغاربها يحرصون على تعليم الناس هذه اللغة العربية، لأنها لغة الإسلام، ولغة القرآن، ولغة الفقه عن الله -جل وعلا- وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا كان العناية بتعليم اللغة العربية من سمات السلف الصالح في منهاج دعوتهم، لا يدعون للغات الأقوام، ويتركون الناس لا يفقهون، بل يعلمونهم باللغة العربية قدر الإمكان.

ولا يمكن أن يكون الداعية بصيرًا في دعوته وهو لا يعلم اللغة العربية، فالدعاة اليوم في المراكز الإسلامية، والمؤسسات، والجمعيات في مشارق الأرض ومغاربها يجب أن يعتنوا بالعلم والعمل باللغة العربية، فإنه لا قوة للإسلام إلا بقوة أهل العلم، وأهل الدعوة، ولا قوة لأهل العلم والدعوة إلا بقوتهم في اللغة العربية، فإذا فهمنا اللغة العربية وتحدثنا بها، فإننا سنصيب في فهمنا لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

السمة السادسة: الانضباط العلمي:

من سمات السلف الصالح: أنهم كانوا ينضبطون علميًا في المسائل التي يتناولونها، فالعلم واسع، وكتبه كثيرة، وتلقيه ليس بالأمر السهل، فلا بد من الاتسام بالانضباط العلمي، ويشمل مسائل:

المسألة الأولى: أن يعلم الداعية من نفسه أنه متمكن علميا فيما يدعو إليه، لا نشترط في الدعوة العلم الكامل، وإنما من علم شيئا بدليله وفَهِمَهُ فإنه له أن يدعو إليه، علم التوحيد وفهمه يدعو إليه، علم مسائل من الشرع بدليلها ووضوحها، فإنه يدعو إليها.

المسألة الثانية: أن يكون هناك علم بأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، وأخلاق الصحابة، ومن أعظمها: الإخلاص، والصبر، ومعرفة الحق، حسن الخلق، حسن الكلام مع الناس، لين الجانب، التعبد، القدوة الحسنة، فالخلق الذي سَمَّاه عدد من أهل العلم: السلوك من المهمات في الانضباط العلمي لدى الداعية، لأن العلم بلا خلق لا يكون علمًا صحيحا، بلا صبر وأناة، وحسن جانب، وتؤدة وحلم فكيف يكون داعية.

المسألة الثالثة: العلم بواقع الناس، واقع الناس مختلف الناس باختلاف البلاد، ربما كانوا في بلدٍ لديهم عادات، فعليه العلم بهذه العادات، وهذا يجعله يهتم بمهارات مخاطبة الناس.

فهذه الثلاث عناصر: العلم، وهذا مهم وهو الأصل، والخلق، و المهارة، ما صلتها بالانضباط؟

العلم وحده ليس علاجًا، ولذلك أهل العلم عرفوه: بالعلم النافع، وينضم إليه خلق الداعية، ومهارته التي تجعله ينضبط دعويًا وعلميًا بأصول العلم، فالدعوة بعلم وأخلاق ومهارة في مخاطبة الناس.

فالداعية على منهاج السلف الصالح يكون عالمًا، ذا خلق، بصيرًا بكيفية إيصال دعوته، وإنما أتيت الدعوة السلفية في كثير من الأنحاء من خُلُق حامل العلم، فيكون داعية ومهمل جانب الأخلاق، فيؤتى من هذا الباب.

السمة السابعة: دعوة للاجتماع لا للفرقة:

إن أسلوب تعامل الداعية مع الناس من سمات السلف الصالح في دعوتهم، فهم دعاة إلى الجماعة، ودعاة إلى البعد عن الفرقة، فكل وسيلة من وسائل اجتماع الناس يأتونها، وكل وسيلة من وسائل افتراق الناس فإنهم يذرونها.

لذا كانت دعوة الداعية إلى السنة، والتوحيد، ولزوم العلم، والعمل، دعوة إلى الاجتماع في الدين، فالجماعة جماعتان: جماعة في الدين، وجماعة في الأبدان، يعني في أبدان الناس ومصالحهم، واجتماع الناس في دينهم وسيلة لاجتماعهم في دنياهم، وهذه سمة منهاج السلف الصالح في الدعوة في أعظم أمر، في الاجتماع في الدين، وعدم التفرق فيه قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[سورة الشورى: الآية 13]، فإقامة الدين وعدم التفرق فيه، هذا دعوة إلى الجماعة في الدين ونبذ الفرقة: الثاني: الاجتماع على من له السمع والطاعة، وله الولاية، وهو ولي الأمر المبايع، فالاجتماع عليه واجب.

السمة الثامنة: السمع والطاعة لولي الأمر:

فمن سمات منهج السلف الصالح الاجتماع على من له السمع والطاعة، وله الولاية، وهو ولي الأمر المبايع، فالاجتماع عليه واجب، ولذلك ذَمُّوا الخوارج، وذموا الفِرَقَ، من المعتزلة، والكرامية، والشيعة، وأشباههم، لأنهم يدعون إلى الخروج على ولاة الحق، وعلى من له البيعة الشرعية.

فليس من الدين، ولا من الكتاب والسنة، ولا مما دل عليه منهج السلف الصالح أن يكون هناك في بلاد الإسلام بيعتان: بيعة على السمع والطاعة للدولة، وبيعة أخرى للجماعة، أو بيعة دعوية، أو بيعة سلوكية، أو بيعة طرقية، فليس هناك إلا بيعة واحدة، فكل بيعة خلاف البيعة المعروفة التي تؤدي للسمع والطاعة لإمام المسلمين، ولولي أمرهم فهي باطلة.

فلا يصح أن تدعو جماعة من جماعات الدعوة إلى بيعة مرشد لها، أو إمام لها، أو شيخ طريقة، أو نحو ذلك، لأن هذه البيعات مخالفة لا دليل عليها، مخالفة لنهج السلف الصالح في أن البيعة واحدة غير متعددة، فليس هناك عدة بيعات في المنهج الدعوي الذي سلكه السلف الصالح، لأن ذلك سيؤدي إلى فرقة واختلاف ومنابذة لطريقة السلف الصالح.

السمة التاسعة: الوسطية والاعتدال:

من سمات السلف الصالح اعتناؤهم بالوسطية والاعتدال، ومعناها: أن يأخذوا في الأمور بالوسط بين طرفين. فليس السلف الصالح مع أهل الغلو في الدعوة، والعمل، والعلم، وليسوا مع أهل الجفاء في الدعوة، والعمل، والعلم، وإنما هم وسط بين ذلك، فكما أنهم وسط في توحيد الله، وفي صفاته، وفي السنة، وفي السلوك أيضا بين طرفين.

وهم في منهاج الدعوة وسط بين طرفين، وهذا يجعل دعوتهم قابلة للانتشار والبقاء، لأن كل دعوة خرجت عن منهاج السلف الصالح بغلو أو مبالغة، لا يكتب لها الاستمرار، وإنما يكتب الله الاستمرار للدعوة التي هي على منهاج سابق.

الناظر في كتب الفرق يجد أن فرقا كثيرة أتت وانتهت، وبقي أهل السنة والجماعة و بعض النحل التي ستبقى إلى قيام الساعة، كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: «افْتَرَقَتِ  الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»( 7).

السمة العاشرة: الاعتماد على النصوص الشرعية: 

من سمات المنهج السلفي في الدعوة أنه منهج يعتمد على النصوص الشرعية، والقواعد المأخوذة من النصوص من كلام أهل العلم، فهذا المنهج له كليات تحكم طبيعة دعوته، فالأدلة مقدمة، والقواعد العامة مقدمة، فلابد من ضبطٍ للدعوة، وإلا تعددت الاجتهادات، فإذا كان هناك رجوع إلى الدليل، والقواعد، فإن الدعوة تتقارب.

من ذلك: قاعدة العناية بالمصالح العامة، وتقديمها على المصالح الخاصة، فالمصالح الكلية في الأمة مهمة، فإذا أتى منهج من مناهج الدعوة يريد أن يقدم مصلحة خاصة لمنهاجه على المصلحة العامة للأمة، فإنه حين ذاك يشق طريقا فيه فُرْقَةً لهذه الأمة.

ولذا اعتنى السلف الصالح -رحمهم الله- بالمصلحة العليا للأمة، وتفويت الأدنى من المصالح الخاصة، حتى لو كانت مصالح متعلقة بذات الداعي، أو ببعض المسائل، فإنهم يفوتون المصلحة الدنيا لتحصيل المصالح الكلية، وهذا إنما يقدره أهل العلم، والزمان يتفاوت، والناس يتفاوتون.

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" يعني: أن اجتهاد العالم يحدث له قضاء جديد، لأن الناس أحدثوا فجورًا في حياتهم. 

ومن ذلك أيضا: إعمال قاعدة سد الذرائع. والذرائع: جمع ذريعة، وهي: كل وسيلة أو طريق إلى غيره، لكنه في القاعدة المقصود بها: الذرائع الموصلة إلى المنهي عنه في الشرع. 

هناك قاعدتان يعمل بهما في ذلك: الأولى: ما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع. فإذا كان المشروع واجبًا فما لا يتم إلا به يكون واجبًا، وما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب، لأن الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد. والثانية: سد الذرائع.

الذرائع ثلاثة أقسام عند الأصوليين:

القسم الأول: ذريعة أجمع العلماء على عدم سدها، مثل: زراعة العنب، وبيع السكاكين، وبيع وسائل الإشعال، وأمثال ذلك كثير. أجمع العلماء على أنه لا يجوز سد هذه الذريعة، لأنها ذريعة متوهمة ونادرة. 

إن إعمال قاعدة سد الذرائع في الدعوة يجب أن تكون بمقدارها، فبعض الذرائع لا تسد لأجل ظهور الحاجة العامة لها.

القسم الثاني: من الذرائع ما اتفق العلماء على أنه يسد مثل: الخلوة بالأجنبية، وتكشف المرأة بإظهار مفاتنها، وتبرجها أمام رجل أجنبي، فإن هذا مما اتفق العلماء على أنها تسد، وأمثال ذلك كثير.

القسم الثالث: مسائل اختلفوا فيها هل تسد، أم لا تسد؟ وهذه المختلف فيها يأتي كثير منها في أمور الدعوة، مثل بعض الأشياء يأتيها بعض الدعاة، مثل: الأناشيد اللتي يسمونها أناشيد إسلامية، ومثل بعض الأعمال الدعوية كالمخيمات والمعسكرات، فالبعض يقول: لا، هذه ذريعة إلى طرق صوفية، وآخرون يقولون: لا هذه وسيلة نافعة.

فإذا كان هناك خلاف في هذه الذرائع هل تسد أو لا تسد في المنهاج الدعوي؟ فلا بد من الرجوع إلى أهل العلم للاجتهاد في هذه استنادًا للكتاب والسنة، وكلام سلف الأمة، فإذا اختلف أهل العلم الراسخون في ذلك، فإن المسألة فيها سعة. 

السمة الحادية عشرة: الترغيب: 

إن الناس يحتاجون إلى بث الفأل والترغيب فيهم أكثر من التقنيط والترهيب، أي: أن يكون اعتماد الدعوة على بث ما يُرَغِّبُ الناس ويشرح الصدر، ولذلك قالت عائشة -رضي الله عنها- لعبيد بن عمير: "يا عبيد إذا وعظت فأوجز، فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، وإياك وإملال الناس".

فالمبالغة في الترهيب حتى يظن الإنسان أنه هالك لا محالة، هذا ليس من منهاج السلف، والمبالغة في التشاؤم، أو ذكر الأوضاع ليس مما يقتضيه العلم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الفأل، كما ثبت في الصحيح: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ»( 8).

فالداعية في محاضرته، والخطيب في خطبته يحرص على أن يبعث الفأل في الناس، وعلى ترغيبهم، يقلل من الترهيب الذي يخيف، فيكون بقدره، ولذلك تجد في القرآن وصف الجنة أكثر من وصف النار، والترغيب أكثر من الترهيب.

تنبيه على طريقة منكرة:

ننبه على طريقة من طرائق الدعوة المعاصرة التي استخدمها بعضهم -وهي منكرة-، وهي أن يبعث في الناس التشاؤم من حال الإسلام، ومن حال أهله، يأتي الخطيب أو الإمام أو الداعية يتكلم عن أوضاع المسلمين في دينهم، والأوضاع السياسية، حتى يقنت الناس، ويبعث فيهم التشاؤم، واليأس من أن يكون هناك مخرج وطريق إلى الله -جل وعلا-، وعودة لعزة هذا الدين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»( 9)، وفي مسند أحمد بإسناد لا بأس به " قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس»( 10).

فإذا فسد الناس أو كان الواقع المؤلم في دينهم، في شهواتهم، في بلدهم، فلا يجوز أن يسلك في الدعوة سلوك التشاؤم، ومن التقنيط والتشاؤم: ذكر مكائد أعداء الإسلام، وذكر خططهم، والمبالغة في ذلك، فإن هذا مخالف لأمر الله -جل وعلا- الشرعي، ومخالف لأمره القدري، لأن الأمور ليست بقدرة بشرية، ولا بعدة وعتاد، ولا بواقع قوي، الله -جل وعلا- يغير الأمور في يوم وليلة بكن فيكون.

السمة الثانية عشرة: الرد على شبه المخالفين:

من سمات السلف الصالح أنهم يحرصون على الرد على الشُّبَهِ في الدين، وليس عندهم أن كل منتسب للدين يسكت عليه، فإن حماية الدين، والملة، والديانة، والحق، والكتاب والسنة، أولى من رعاية الْمُعَيَّنِ.

ولذا كان السلف الصالح عندهم الردود العلمية على المخالفين في العقيدة، وفي لزوم الجماعة، حتى قال الإمام أحمد لرجل: قم أنت رجل ضال. لمخالفة تتعلق بالجماعة في كلامه.

لكن هذا لا يعني إحداث الفرقة، ولا يعني المبالغة في ذلك، حتى يكون هناك الكثير من الخروج عن منهاج النبوة في جمع الكلمة، وجمع كلمة المسلمين. 

السمة الثالثة عشرة: سلامة ألسنتهم وصدورهم من الوقيعة في أهل العلم:

إن السائرين على منهاج السلف الصالح، وما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة يتسمون بسلامة ألسنتهم وصدورهم من الوقيعة في أهل العلم، أو بغضهم، وهذا من المهمات لنجاح الداعية في دعوته، فإن الذي يحمل لسانًا وقَّاعًا، فإن الله -جل وعلا- يبتليه بوقوع الناس فيه، والذي يحمل قلبه غيظا على المؤمنين، أو على بعض المؤمنين، فإن دعوته لا تؤثر، لهذا كان السلف الصالح يَدْعُون ويرون أنهم أقل الناس، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما لقيت أحدًا إلا ظننت أنه خير مني". ولما وقف الحسن البصري -رحمه الله- والفرزدق الشاعر على قبرٍ، قال الحسن للفرزدق: "يا فرزدق ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: أما أنا فأعددت لها لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأما أنت فأعددت لها عملك، فبكا الحسن وقال: إن كان الأمر كذلك، فإياك والوقوع في المحصنات". 

فمن سمة الدعاة -وكذلك كان السلف- قبول الحق ممن جاء به، ويلينون لإخوانهم، ولا يقعون بفلان وفلان، وهذه أمور إنما تكون بقدر الحاجة في حينها، لا أن تكون منهجا وسبيلا وديدنًا، فلان فيه، وفلان فيه، وهكذا، فهذا مخالف لمنهج السلف الصالح.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

 

معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ

***************************************************************************************************

( 1) أخرجه البخاري (3/1077، رقم 2783)، ومسلم (4/1872، رقم 2406).

( 2) أخرجه مسلم (4/2060، رقم 2674).

( 3) أخرجه البخاري (2/938، رقم 2509)، ومسلم (4/1962، رقم 2533) من حديث عبد الله بن مسعود.

( 4) كتاب التوحيد (ص 21).

( 5) أخرجه البخاري (2/104، رقم 1395)، ومسلم (1/50، رقم 19).

( 6) أخرجه البخاري (2/104، رقم 1395)، ومسلم (1/50، رقم 19).

( 7) أخرجه أحمد (2/332، رقم 8377)، وأبو داود (4/197، رقم 4596)، والترمذي (5/25، رقم 2640).

( 8) أخرجه البخاري (5/2171، رقم 5424)، ومسلم (4/1746، رقم 2224).

( 9) أخرجه مسلم (1/130، رقم 145).

( 10) أخرجه أحمد (4/73، رقم 16736).